هل يمكن أن تلعب فرنسا دورا بعد الانسحاب الأمريكي من المنطقة العربية؟

تحديات قائمة:

هل يمكن أن تلعب فرنسا دورا بعد الانسحاب الأمريكي من المنطقة العربية؟



استدعت المشاركة الفرنسية في قمة بغداد والتي عقدت يومي 28 و29 أغسطس 2021 الفائت، تساؤل جوهري حول إمكانية تصاعد الدور الفرنسي في المنطقة كبديل للدور الأمريكي، فعلى مدار العقود المُنصرمة كانت واشنطن فاعلًا أساسيًا في الاتصالات والاجتماعات التي تُعقد بين العراق والقوى الإقليمية في المنطقة ولا سيَّما حلفاء واشنطن الإقليميين، وفي هذا الإطار، فإن الرئيس ماكرون يرى أن ملء الفراغ في الشرق الأوسط لا يمثِّل فرصة لفرنسا فحسب، وإنما يُعد أمرًا جوهريًّا للحفاظ على قطب غربي في المنطقة، ومجابهة النفوذ الصيني في المنطقة.

وفي ضوء ذلك، فقد أعرب الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” على هامش القمة، أن بلاده ستواصل نشر قواتها في العراق حتى في حال انسحاب القوات الأمريكية، قائلًا:” بغض النظر عن الخيارات التي يتخذها الأمريكيون، سنحافظ على وجودنا في العراق لمحاربة الإرهاب”، وجاء ذلك تزامنًا مع تفاقم المخاطر المُحدقة بعودة نشاط تنظيم داعش في أعقاب صعود حركة طالبان في أفغانستان، وذلك في مقابل تصريحات الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في يوليو 2021، والتي أكَّد خلالها أن العمليات القتالية الأمريكية في العراق ستنتهي هذا العام ، لكن الجنود الأمريكيين سيواصلون تقديم التدريب المشورة والدعم للجيش العراقي في القتال ضد تنظيم  داعش.

دوافع باريس

دللت المشاركة الفرنسية في قمة الجوار الإقليمي ببغداد على تصاعد الانخراط الفرنسي في شؤون المنطقة، وهو الأمر الذي ارتبط بعدد من الدوافع الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1- إعادة بلورة المكانة الفرنسية: في ضوء المساعي الفرنسية الحثيثة لإعادة بلورة مكانتها كقوة عظمى في الشرق الأوسط، عمدت باريس إلى استغلال المشهد الجيوسياسي المتغير في المنطقة، ولا سيّما في أعقاب فك الارتباط الأمريكي بالشرق الأوسط؛ حيث شهدت المنطقة عزوفًا للقوى الغربية. وفي المقابل، برز نفوذ كلٍّ من أنقرة وموسكو في سوريا وليبيا، فضلًا عن تنامي نفوذ طهران عبر وكلائها الإقليميين في العراق واليمن.

وتحاول فرنسا التغلب على الخطاب الذي يشكك في مدى قدرتها على الظهور كقوة عظمى مجددًا في المنطقة عبر الاستمرار في بيع الأسلحة باهظة الثمن لعدة بلدان بالمنطقة، وانضمامها للقوات الأمريكية والبريطانية في عدة عمليات عسكرية بالمنطقة، كما أعربت باريس عن استعدادها لاستخدام القوة لإرساء النظام والاستقرار في المنطقة إذا اقتضى الأمر ذلك.

وفي هذا الإطار، فإن فرنسا تسعى لملء الفراغ المرجَّح حدوثه في أعقاب انسحاب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط؛ إذ شهد الاهتمام الفرنسي زخمًا واضحًا بالشرق الأوسط على مدار الأعوام الثلاثة المنصرمة؛ حيث زار الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” لبنان والعراق مرات عديدة، والتقى العديد من الرؤساء والمسؤولين العرب، كما عمل على تعزيز الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة، ونشر وحدات بحرية بما في ذلك حاملة طائرات هليكوبتر وفرقاطة في شرق البحر المتوسط.

2- التصدي لتمدد الجماعات الإرهابية: حيث تنظر فرنسا إلى المنطقة كمصدر رئيسي للتهديدات الإرهابية العالمية، والتي تمتد إلى الأراضي الفرنسية أيضًا، وعزز من هذا الاقتناع استمرار التهديد المتعلق بتنظيم داعش، وتفاقم المخاوف بشأن تنامي نفوذ الجماعات الإرهابية في المنطقة في أعقاب انهيار الحكومة الأفغانية وسيطرة حركة طالبان على كابول، ولعل هذا ما كشف عنه التفجير الانتحاري الذي نفذه تنظيم داعش في كابول في 26 أغسطس 2021، وأودى بحياة عشرات الأشخاص بينهم 13 عسكريًّا أمريكيًّا، فضلًا عن إصابة آخرين.

لقد أفضى هجوم كابول إلى إحياء المخاوف العالمية بشأن احتمالية تنامي نفوذ تنظيم “داعش” مجددًا في المنطقة، فضلًا عن التقارير التي تشير إلى استمرارية مصادر تمويل التنظيم؛ إذ إن التنظيم بإمكانه الوصول إلى عشرات الملايين من الدولارات، ومن المرجَّح أن يواصل إعادة بناء شبكته في بؤر عديدة بالمنطقة، بما في ذلك سوريا والعراق، في المستقبل المنظور، بالإضافة إلى تعاظم فرص أتباع “داعش” في إفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة المقبلة.

وفي ضوء ذلك، فإن مكافحة تنظيم “داعش” لا تزال إحدى أولويات الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في الشرق الأوسط؛ إذ صرّح الأخير في أعقاب لقاء جمعه برئيس الوزراء العراقي “مصطفى الكاظمي” قبيل قمة الجوار الإقليمي ببغداد، بأن تنظيم داعش لا يزال تهديدًا قائمًا في المنطقة، مشددًا على أهمية الاستمرار في الحرب ضد هذه الجماعات الإرهابية، وتعزيز الشراكة بين باريس وبغداد في هذا الصدد.

3- تأمين إمدادات الطاقة القادمة من المنطقة العربية: يرتبط التوجه الفرنسي تجاه المنطقة العربية بمحاولة الحفاظ على إمدادات الطاقة القادمة من المنطقة، إذ سعت باريس للحفاظ على موطئ قدم في كلٍّ من ليبيا والعراق ولبنان وقبرص لحماية مصالحهم التجارية والاستفادة من موارد الطاقة في المنطقة؛ إذ تمتلك ليبيا أكبر احتياطي نفطي في إفريقيا، وخامس أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي، وتعمل شركة توتال الفرنسية في ليبيا منذ ما يقرب من سبعة عقود، وتمتلك الشركة نفسها في العراق حصة 22.5% في كونسورتيوم يدير حقل الحلفاية النفطي، ولديها حصة 18% في منطقة استكشاف في إقليم كردستان، كما تشارك شركة توتال في التنقيب عن الغاز قبالة الساحل الجنوبي لقبرص، والذي يقع بجوار المياه اللبنانية مباشرةً، حيث تتمتع تلك المنطقة بكميات وفيرة من موارد الطاقة.

4- الحد من تدفق اللاجئين إلى جنوب أوروبا: فالانخراط الفرنسي المتصاعد في أزمات المنطقة يأتي في إطار مساعي باريس لمواجهة معضلة اللاجئين؛ حيث دعمت باريس قائد الجيش الوطني الليبي المشير “خليفة حفتر”؛ لقدرة الجيش الوطني الليبي من الحفاظ على تماسك ليبيا، ومن ثمّ الحيلولة دون تدفق الليبيين والأفارقة عبر السواحل الليبية إلى جنوب أوروبا. كما أنّ الانخراط الفرنسي في الأزمة اللبنانية جاء في إطار المخاوف الفرنسية من احتمال ظهور شتات لبناني جديد في أوروبا، ولا سيَّما في فرنسا بصفتها القوة الاستعمارية السابقة في البلاد.

وفي هكذا سياق، تستهدف سياسات “ماكرون” لتجنب التداعيات المتعلقة بتفشي موجة جديدة من اللاجئين في أوروبا تعزيز فرصه السياسية في الداخل في إطار مساعيه للفوز بالرئاسة الفرنسية مجددًا في الانتخابات المُزمع عقدها في عام 2022.

إشكاليات عائقة

على الرغم من سعي باريس للعب دورا أكبر بالمنطقة العربية عبر الاشتباك السياسي مع العددي من ملفات المنطقة كما هو قائم بالنسبة للأزمة اللبنانية والليبية ومكافحة الإرهاب بدول الساحل الافريقي وشمال افريقيا بجانب الدور الأخير بالعراق في محاولة لاستغلال الانسحاب الأمريكي من المنطقة وهو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي، فإن إمكانية الاستعاضة عن الدور الأمريكي بالدور الفرنسي، يواجه عدد من الإشكاليات:

1- ضعف أدوات التأثير في الأزمات العربية القائمة، انتقد بعض المراقبين زيارة ماكرون الأخيرة للعراق؛ إذ يرى البعض أنها اعتمدت على شعارات قديمة مكررة لزيارات المسؤولين الغرب إلى مناطق الأزمات؛ حيث يتظاهرون وكأن لديهم حلولًا مجدية للنزاعات والأوضاع المتدهورة، ويتعهدون بالمساعدة في حلها، إلا أنه سرعان ما يثبت زيف تلك التعهدات، وأبرز الأمثلة على ذلك فشل المساعي الدبلوماسية الفرنسية في حل الأزمة اللبنانية، ومن المرجَّح أن مستقبل الانخراط الفرنسي في العراق يتشابه إلى حدٍ كبير مع سيناريو التدخل الفرنسي في لبنان.

2- القيام بدور الوكالة لواشنطن في المنطقة، رغم تعهدات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن باريس ستحافظ على وجودها العسكري في العراق حتى في حال انسحاب القوات الأمريكية، فضلًا عن الاستمرار في دعم أكراد العراق، إلا أن هناك بعض التقديرات التي تشير إلى أن الدور المتنامي الفرنسي في المنطقة يحظى بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية؛ نظرًا لأن باريس لا تتخذ مسارًا بعيدًا عن مسار واشنطن في الشرق الأوسط، بل أنه من المرجَّح أن يستخدم الأمريكيون حلفائهم البريطانيين والفرنسيين للقيام ببعض الأعمال بما يتفق مع إستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما يعني أن باريس ستكون بمثابة وكيل لواشنطن.

بالرغم من شيوع هذا الافتراض، فقد قوبل ببعض الانتقادات التي ترى أن هناك تباين بين سياسة فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة؛ إذ يلتزم الرئيس ماكرون بمقاربة الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول، والتي تنص على ضرورة الحفاظ على الاستقلالية الفرنسية عن واشنطن في السياسة الخارجية، كما سعى الرئيس ماكرون خلال زيارته الأخيرة للعراق إلى إبراز التباين بين سياسة باريس وواشنطن الخارجية، ولا سيَّما في ضوء تعاظم الانتقادات الموجهة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان وصعود طالبان.

3- تضاؤل الإمكانيات الفرنسية وتزايد المشاعر السلبية للرأي العام العربي ضدها، ربما يكون من غير الممكن لفرنسا أن تحل محل الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وذلك في ضوء تضاءل إمكانيات باريس مقارنة بواشنطن، بما يعوق وفاء باريس بتعهداتها، كما أن جهود فرنسا لإرساء الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا ولبنان لا زالت دون جدوى وغير مكتملة، هذا فضلًا عن تاريخ فرنسا الاستعماري الحافل بالمنطقة، والمشاعر السلبية التي يكنّها قطاع واسع من المسلمين لفرنسا بسبب الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للإسلام التي نشرتها مجلة شارلي إيبدو الفرنسية، والتي دافع عنها الرئيس ماكرون باعتبارها حرية تعبير، الأمر الذي دفع سكان المنطقة لشنّ حملة شعبية على مواقع التواصل الاجتماعي تدعو لمقاطعة المنتجات الفرنسية كافة.

رهانات ماكرون

في المجمل، من المرجَّح أن يظل الشرق الأوسط إحدى الساحات الرئيسية للنشاط الدبلوماسي للرئيس “ماكرون”، ولا يتعلق هذا الأمر بالروابط التاريخية بين فرنسا ودول المنطقة، أو التاريخ الاستعماري الفرنسي بها فحسب، وإنما انطلاقًا من مساعي الرئيس الفرنسي لتعزيز قطاع الصناعات الدفاعية وقطاع الطاقة، ومكافحة الإرهاب، وبوجه عام تحقيق أهداف فرنسا البراجماتية في نهاية المطاف.