لماذا حُجب تطبيق “تليجرام” في العراق؟

دوافع أمنية:

لماذا حُجب تطبيق “تليجرام” في العراق؟



على غرار ما فعلته السلطات الإيرانية في مايو 2018، حينما صدر قرار قضائي بحجب تطبيق “تليجرام”، فإن وزارة الاتصالات العراقية أعلنت في 6 أغسطس 2023، “حجب تطبيق “تليجرام” بناءً على توجيهات من الجهات العليا لأسباب تتعلق بالأمن القومي”، وهو القرار الذي يحمل دلالات يأتي من أبرزها: تحجيم نفوذ المليشيا العراقية المسلحة الموالية لإيران، واحتواء جرائم الابتزاز الإلكتروني للمسؤولين العراقيين، والتصدي لمحاولات اختراق خصوصية العراقيات، ووقف عملية نشر البيانات الشخصية للعراقيين، واحتواء صراع الفصائل العراقية المدعومة من إيران، وعدم إثارة الرأي العام حول بعض أزمات العراق مع دول المنطقة، واستجابة عراقية لمطالب أمريكية.

فقد أعلنت وزارة الاتصالات العراقية في بيان صحفي، أن “حجب تطبيق “تليجرام” الإلكتروني، يأتي للحفاظ على البيانات الشخصية للمواطنين التي خرق التطبيق المذكور سلامة التعامل بها خلافاً للقانون”، مشيرة إلى أن “قرار الحجب جاء بعد محاولات عدة من قبل المؤسسات العراقية مع الشركة المعنية بإدارة التطبيق، كي تقوم الأخيرة بإغلاق المنصات التي تتسبب في تسريب بيانات مؤسسات الدولة الرسمية والبيانات الشخصية للمواطنين، لما يشكله من خطر على الأمن القومي العراقي والسلم المجتمعي”، ومضيفة بأن عدم استجابة الشركة هو دفع لإغلاق التطبيق.

ملاحظات جوهرية

في ضوء ذلك، هناك بعض الملاحظات التي يمكن رصدها على قرار الحجب، يأتي من أبرزها ما يلي:

1- ترتيب العراق في مؤشر حرية الصحافة: إن القيود التي تفرضها السلطات العراقية على شبكة الإنترنت جعلتها في مؤخرة الدول العربية فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير، فوفقاً للمؤشر السنوي لحرية الصحافة العالمي لعام 2023، الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود؛ فقد احتل العراق المرتبة 167 من ضمن 180 دولة في قائمة حرية الإعلام والصحافة، وهو “تحسن طفيف” بعدما كانت في المرتبة 172 العام الماضي. وقد علق المرصد العراقي لحقوق الإنسان على ذلك قائلاً: “حرية الصحافة في العراق أدنى بكثير مما يجب أن تكون عليه في بلد رفع شعار الديمقراطية منذ نحو 20 عاماً، ويكفل دستوره حق التعبير عن الرأي ويلزم السلطات بحمايته”.

المصدر: موقع CNN بالعربية نقلاً عن منظمة مراسلون بلا حدود.

2- انقسام ردود الفعل داخل الأوساط العراقية: أثار قرار حجب تطبيق “تليجرام” غضباً ورفضاً واسعاً داخل الأوساط العراقية، نظراً لكون هذا التطبيق الذي دشنه الروسي “بافل دوروف” في عام 2013، يحظى بشعبية كبيرة داخل بلاد الرافدين، حيث يفوق عدد مستخدمي هذا التطبيق 16 مليون مستخدم (إحصائية سابقة لوزارة الداخلية العراقية في 2020)، فضلاً عن آلاف القنوات العاملة بمجالات مختلفة سواء سياسية أو فنية أو ترفيهية واجتماعية وغيرها، ويرجع ذلك إلى كونه يمثل مصدراً رئيسياً للأخبار ومشاركة المحتوى بين المواطنين من جهة، فضلاً عن أهميته بالنسبة لشريحة كبيرة من الطلبة العراقيين الذين كانوا من أكثر المنددين على منصات التواصل الاجتماعي بهذا القرار. ورغم ذلك، فإن هناك بعض العراقيين الذين أيدوا قرار الحجب، مبررين ذلك بأنه سبب في تسريب البيانات الشخصية لبعض المواطنين، وأن قرار الحكومة بحجبه يعد بمثابة “تحذير” لإدارة التطبيق بعد رفضها وضع ضوابط بشأن بعض القنوات.

3- استخدام تطبيق “فايبر” كبديل لـ”تليجرام”: عقب ساعات قليلة من إعلان قرار الحجب، أعلنت وكالة الأنباء العراقية “واع” استخدام تطبيق يطلق عليه اسم “فايبر “Viber”، ودعت المواطنين إلى متابعة الأخبار على هذا التطبيق. ورغم ذلك، فإن هذا القرار أثار انتقادات عدة داخل العراق، نظراً لكون مؤسس فايبر عام 2010، هو رجل الأعمال الأمريكي الإسرائيلي “تالمون ماركو”. ورغم أن الشركة اليابانية راكوتن Rakuten استحوذت على Viber في عام 2014 مقابل مبلغ 900 مليون دولار، إلا أن العراقيين قالوا إن هذا التطبيق يتنافى مع القانون العراقي الصادر في 2022 الذي “يجرم” التطبيع مع إسرائيل، ويحظر أي اتصال مع إسرائيل، وينص على أن مثل هذا النشاط يعاقب عليه بالإعدام.

دواعٍ متعددة

في ضوء العناصر سالفة الذكر، يمكن القول إن قرار السلطات العراقية بحجب تطبيق “تليجرام” في هذا التوقيت ودون الإشارة في بيان وزارة الاتصالات العراقية حول أسباب الحجب إلى الجماعات الإرهابية، يحمل جملة من الدوافع، يمكن توضيحها على النحو التالي:

1- احتواء جرائم الابتزاز الإلكتروني للمسؤولين العراقيين: من أبرز الدوافع وراء حجب “تليجرام” هو قيام بعض القنوات التي وصفتها الأجهزة العراقية بـ”المشبوهة” بنشر معلومات وصور وفيديوهات قيل إنها “مغلوطة ومفبركة” عن بعض المسؤولين العراقيين. فعلى سبيل المثال، في ديسمبر 2022، نشرت قناة تحمل اسم “العراق برس” صوراً قالت إنها لـ”مهدي عبدالأمير إدريس علي خان” رئيس جمعية الصندوق الخيري الإسلامي بالعراق، وأفادت القناة بأنه أحد وكلاء الزعيم الشيعي الأعلى العراقي بالنجف “علي السيستاني” وقيادي في “حزب الدعوة الإسلامية”، وقد أعادت القناة نشر هذه الصور قبل يومين من إعلان السلطات العراقية حجب “تليجرام”، مشيرة إلى أن حكومة الإطار التنسيقي قد تتجه لحجب التطبيق بشكل نهائي وذلك بالقضاء على أي محاولات لفتح التطبيق من خلال مواقع التشفير “VPN” بناء على توجيهات من “إدريس خان”.

2- التصدي لمحاولات اختراق خصوصية العراقيات: من الدوافع الأخرى التي دفعت السلطات في بغداد لحجب تليجرام هو تزايد جرائم ابتزاز النساء في العراق من خلال نشر صورهن الخاصة بعد اختراق البعض لحساباتهن، إذ أفاد مركز الإعلام الرقمي في العراق في مايو الماضي، بأن تطبيق تليجرام حذف حوالي 40 قناة ومنصة تستخدم لابتزاز النساء في العراق، وأضاف أن “المبتزين ينشرون صوراً ومقاطع خاصة للنساء في العراق بعد اختراق حساباتهن عبر آلية معروفة حذر منها مركز الإعلام الرقمي تسمى “DMC”، وذلك بغرض الابتزاز المالي، مستغلين الجهل الرقمي لبعض المستخدمين.

3- وقف عملية نشر البيانات الشخصية للعراقيين: إن من الأسباب الأخرى وراء حجب التليجرام هو قيام بعض القنوات بالحصول على قاعدة ليس فقط البيانات الشخصية للمواطنين العراقيين بل ومعلومات أيضاً عن أجهزة ومؤسسات بالدولة، وأسماء ضباط في جهاز الاستخبارات وبرقيات سرية وصور اجتماعات حكومية خاصة. ففي مطلع أغسطس الجاري، أعلنت قناة تحمل اسم “بوت بيانات العراق”، إمكانية إعطاء المواطن بمجرد اختيار اسم المحافظة معلومات عن أي شخص بها، والقناة تعطيه اسم الشخص كاملاً واسم أفراد العائلة وأرقام الهواتف، وهو ما أثار جدلاً كبيراً داخل العراق، دفع البعض للتساؤل عن دور الدولة، ومنهم الإعلامي العراقي “إبراهيم المالكي” الذي يقدم برنامج “المرتكز” على قناة “الاتجاه العراقية”، الذي خصص جزءاً من حلقة في برنامجه في 3 أغسطس الجاري، للحديث عن هذا الأمر، وقال وقتها إن “هذا الملف يمثل تهديداً للأمن القومي العراقي، وعلى الأجهزة المعنية من سلطات أمنية وتشريعية ضرورة التدخل ومتابعة هذا الملف”.

4- احتواء صراع الفصائل العراقية المدعومة من إيران: أفاد بعض المراقبين بأن قرار حجب تليجرام جاء بأمر مباشر من إيران لرئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” (المدعوم من قوى الإطار التنسيقي الشيعي الموالي لإيران)، وذلك جراء نشر هذا التطبيق بعض الجرائم التي ارتكبتها المليشيا الموالية لها بالعراق (التي تستخدم التليجرام بكثرة) من نهب وسرقة وتهريب للعملة الصعبة. ومن جهة، كشفت مصادر عراقية مطلعة لبعض وسائل الإعلام، أن الفترة الأخيرة شهدت تمرداً من قبل مليشيا الحشد الشعبي العراقية (المدعومة من إيران) على حكومة “السوداني”، مما أدى إلى حدوث انشقاقات أبرزت حجم الخلافات بين هذه المليشيا والحكومة العراقية.

ولذلك، أثار تطبيق الحجب غضباً كبيراً في أوساط المنصات التابعة لهذه الفصائل التي تمتلك وفقاً لوسائل إعلام عراقية نحو 40 قناة على “التليجرام”، فهناك منصة “صابرين نيوز” (مقربة من فصائل موالية للحرس الثوري الإيراني) التي تضم أكثر من 330 ألف مشترك، قالت بأن قرار الحجب “تكميم للأفواه ومصادرة للحريات، ومعلنة أنها ستشكل تحالفاً إعلامياً ضد الحكومة العراقية”، ودعت مشتركيها إلى متابعة أخبارها في موقع «إكس» (تويتر سابقاً)، إضافة إلى أن “نوري المالكي” رئيس ائتلاف دولة القانون (ورئيس الوزراء العراقي الأسبق) اعترض في تغريدة على حسابه بموقع “إكس” على قرار الحجب، وطالب الحكومة بضرورة التفريق بين المنصات الداعمة للدولة والتي تحرض على الكراهية والعنف.

إضافة لذلك فإن بعض الفصائل بدأت في نشر هاشتاجات حملت عناوين، “والله لن نسكت” و”التليجرام صوت المقاومة”، وهددت الحكومة العراقية بضرورة التراجع عن قرار الحجب، وإلا ستبدأ في تهديدها، وبدأت بعض تلك الفصائل بالفعل في شن هجمات سيبرانية على بعض مؤسسات الدولة العراقية، منها مجموعة تسمى “فاطميون” (مؤيدة للجماعات الشيعية المسلحة).

5- عدم إثارة الرأي العام حول بعض أزمات العراق مع دول المنطقة: أفاد بعض المراقبين بأن قرار حجب تليجرام جاء بأمر مباشر من رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني”، وذلك بسبب نشر بعض القنوات أخباراً وصفتها السلطات العراقية بـ”التحريضية” على خلفية أزمة ترسيم الحدود مع الكويت، وكشفوا أن “السوداني” أبلغ بعض القوى السياسية الراعية لهذه القنوات بـ”التزام التهدئة، وعدم إثارة الرأي العام بما يخل بالأمن العام”. ويرجع السبب في ذلك إلى ما كشفه وزير الخارجية الكويتي “سالم عبدالله الجابر الصباح” إبان زيارته العراق أواخر يوليو الماضي، حينما أعلن تسلم الكويت منازل في منطقة أم قصر جنوب محافظة البصرة العراقية، فوقتها حدث جدل كبير داخل العراق واتُّهمت الحكومة بالتنازل عن جزء من أراضي العراق للكويت، وذلك لتخوفهم من إزالة منازل عراقيين في ناحية مدينة أم قصر الحدودية، مما دفع الخارجية العراقية لنفي ذلك في بيان لها، قائلة: “الحكومة ملتزمة بقرار مجلس الأمن الدولي الخاص بترسيم الحدود مع الدولة الجارة، ولم تفرط في سيادة العراق البرية أو البحرية، ولا سيما فيما يتعلق بمدينة أم قصر”.

6- استجابة عراقية لمطالب أمريكية: هناك بعض التكهنات التي تفيد بأن قرار حجب تطبيق التليجرام في العراق، هو استجابة لمطالب أمريكا، بالقول إن هدف الإدارة الأمريكية من حجب “التليجرام” هو تحجيم نفوذ أية تطبيقات تابعة لروسيا (خاصة بعدما كشفت بعض التقارير الإعلامية الدولية أن روسيا بعدما رفعت الحظر عن التليجرام في 2020 بات التطبيق تحت سيطرة الحكومة الروسية) واستبدالها بأخرى أمريكية أو إسرائيلية. أما الهدف الآخر فهو تحجيم نفوذ المليشيا المسلحة الموالية لإيران المستخدمة لهذا التطبيق، خاصة أن “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” سبق ووصف في تقرير له أواخر 2021، قناة “صابرين نيوز” بأنها “تكتل وسائل التواصل الاجتماعي الرئيسي لمليشيات المقاومة العراقية التي تدعم إيران وتعارض أمريكا وإسرائيل وتصف نفسها بـ”المقاومة”، وأشار إلى ذلك “عائد الهلالي” عضو تحالف الفتح العراقي (يترأسه هادي العامري)، في تصريحات صحفية له في 6 أغسطس الجاري، ذكر فيها أن “ضغوطاً أمريكية وراء حجب التطبيق لاعتباره ذا عائدية روسية وبعيداً عن مراقبة واشنطن، وهو ما أزعج أمريكا، ودفعها لإجراء هذه الضغوط بحجة وجود تسريب للمعلومات والبيانات الحكومية”.

ومن جهة، أفاد البعض بأن اللقاء الذي جمع وزيرة الاتصالات العراقية “هيام الياسري” والسفيرة الأمريكية في العراق “إلينا رمانوسكي” أواخر أبريل الماضي، لعب دوراً في قرار الحجب، خاصة أن الطرفين أبديا استعدادهما لـ”تعزيز التعاون المشترك بين البلدين في قطاعات الاتصالات والمعلوماتية والبريد وآليات تطوير العمل ونقل التكنولوجيا الحديثة للارتقاء بواقع قطاع الاتصالات وتقديم أفضل الخدمات”، وقد يكون المبرر وراء هذا التعاون هو أن أمريكا التي تقود التحالف الدولي لمحاربة “داعش” في العراق وسوريا، تريد تحجيم نفوذ التنظيم الإرهابي على التليجرام، والحفاظ على الأمن المعلوماتي لبلاد الرافدين.

دوافع سياسية

خلاصة القول، إن قرار حجب تطبيق “التليجرام” في الأراضي العراقية أبرز بشكل واضح وجود دوافع سياسية وراء قرار الحجب، ظهرت بشكل لافت في رد فعل الفصائل الشيعية العراقية على هذا القرار، خاصة أن وزارة الاتصالات العراقية تجاهلت إبراز أسباب الحجب بشكل واضح، فعلى الأقل هي لم تُشر إلى أن قرار الحجب جاء بسبب استخدامه من قبل تنظيمات إرهابية مثل “داعش”، وأنه ينبغي حجبه لإنجاح استراتيجية العراق في الحرب على التنظيم الإرهابي، ولذلك قد تكون الحكومة وراء نشر بيانات المواطنين لتبرير سبب الحجب الذي جاء بعد حوالي ثلاثة أيام على ظهور قناة “بوت بيانات العراق”، وبناء عليه من المتوقع أن تُعيد الحكومة العراقية التطبيق للعمل مرة أخرى ولكن ليس الآن، وذلك لاحتواء الغضب العارم للمليشيا المسلحة، خاصة أن البلاد ستشهد انتخابات محلية في 18 ديسمبر 2023، إضافة لذلك ينبغي على حكومة “السوداني” أن تدرك أن قرار الحجب ليس حلاً وإنما يجب العمل على “وجود قانون ينظم ملف تسريب المعلومات والبيانات” فهذا هو الأنسب للتعامل مع هذا الملف، على الأقل لتحسين ترتيب العراق على مؤشر حرية الصحافة العالمي.