لماذا سيُحقق قضاة أوروبيون في ملفات فساد مالي داخلية بلبنان؟

اقتصاد الكاش:

لماذا سيُحقق قضاة أوروبيون في ملفات فساد مالي داخلية بلبنان؟



تبلّغت السلطات اللبنانية، ممثلة في مدعي عام التمييز القاضي “غسان عويدات” (وفق العديد من المصادر)، بزيارة وفد قضائي أوروبي للبنان من فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ خلال الفترة من 9 إلى 20 يناير 2023، للتحقيق مع محافظ مصرف لبنان المركزي “رياض سلامة” وكبار المسؤولين في المصرف، ومديري مصارف تجارية لبنانية، بشأن قضايا فساد تتعلق باختلاس، وإثراء غير مشروع، وتبديد المال العام، إضافة إلى تحويلات مالية إلى الخارج يُشتبه في ارتباطها بعمليات غسيل أموال، وذلك في ضوء تحول عمل النظام المصرفي والنقدي في ظل الأزمة التي تمر بها لبنان إلى “اقتصاد الكاش” (إجراء التعاملات المالية خارج البنوك والأجهزة الرسمية المعنية بذات الشأن)، مما يُسهّل من عمليات الفساد المالي التي تضرّ اقتصاد الدولة وتعرقل من تحسنه.

دوافع التحرك

على الرغم من معارضة العديد من الأصوات داخل لبنان حضورَ المحققين الأوروبيين لاستجواب مواطنين لبنانيين، على خلفية أن ذلك يمس سيادة الدولة وينتهك استقلال القضاء اللبناني؛ إلا أنه من الواضح أن الأمر بات قيد التنفيذ، وهو الأمر الذي يمكن إرجاعه إلى الأسباب التالية:

1- محاولات أوروبية لاحتواء تنامي الفساد في لبنان: يأتي التحرك الأوروبي تجاه لبنان بعد ارتفاع وتيرة الفساد عقب انتفاضة 17 أكتوبر 2019 (انظر الشكل رقم 1)، حيث جاءت في المرتبة 154 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد 2021 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في 25 يناير 2022، نتيجة التراجع المستمر في نقاط قياس المؤشر (المؤشر يُقيّم الدول من صفر إلى 100، وصفر هو مؤشر الدول الأكثر فساداً) وهو الأمر الذي يقوض من الاستقرار الاقتصادي والسياسي. وفي هذا الإطار، ترى الدول الأوروبية أن الصدمات السياسية التي واجهتها بيروت عقب انتفاضة 2019، أدت إلى تزايد الفساد بشكل مطرد، ويزيد من وطأة ذلك أنه يتم تحويل الأموال اللبنانية إلى دول أوروبية مما يضع عليها عبء التحقق من شرعية تلك التحويلات، وبالتالي تأمل الدول الأوروبية في أن يسفر فتح ملف الفساد في لبنان عن تحريك حلحلة الشلل السياسي الراهن الذي قد يزيد من الفساد والتجاوزات المالية لعدم وجود رقابة من مؤسسات الدولة.

شكل (1): تطور زيادة الفساد في لبنان وفق مؤشر مدركات الفساد خلال الفترة (2012-2021)

(Source: www.transparency.org)

إضافةً لما سبق، لا تتوافر بيانات عن لبنان فيما يخص المساءلة عن استخدامات المال العام، وهو ما أبرزه عدم وجود بيانات تمكن مجموعة البنك الدولي من تقييم لبنان ضمن مؤشر “الشفافية والمساءلة والفساد”، والذي يقيس إلى أي مدى يمكن مساءلة السلطة التنفيذية عن استخدامها للأموال وعن نتائج أعمالها من قبل الناخبين والسلطة التشريعية والقضائية، وبالتالي قد تؤدي نتائج التحقيق الأوروبية بشأن التجاوزات المالية إلى اعتماد نظام لبناني معني بمكافحة الفساد، من خلال تشكيل الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد لتفعيل وتعزيز تطبيق تشريعات مكافحة الفساد، وبالتالي قد تضغط دول أوروبا في هذا الاتجاه، لا سيما وأنّ غالبية البيانات الصادرة من جهات دولية تؤكد على أهمية تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد في لبنان.

2- تعدد المطالبات الأوروبية بالتحقيق مع “رياض سلامة”: بدأ إثارة ملف اتهام “سلامة” يظهر على الواجهة مرة أخرى بعد تزايد ضغوط أوروبية متعددة بالشأن ذاته، وهي التي أفضت إلى إعلان وكالة التعاون الجنائي التابعة للاتحاد الأوروبي “يوروجاست” (في 28 مارس 2022)، عن تجميد 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية، إثر تحقيق في اختلاس أموال، حيث تمت مصادرة أصول عدة مواطنين لبنانيين في 5 دول (فرنسا، وألمانيا، ولوكسمبورج، وموناكو، وبلجيكا) يشتبه في تورطهم بعمليات فساد. ولفت بيان الوكالة إلى أن جهات قضائية من فرنسا وألمانيا ولوكسمبورج ستباشر التحقيق، بينما لفت مدّعون في ألمانيا إلى أنّ “سلامة” مشتبه فيه في هذه القضية.

يأتي تحرك الوكالة الأوروبية بعد عدة تحركات أوروبية مماثلة، منها توجيه السلطات السويسرية اتهاماً في يناير 2021 لـ”رياض سلامة” بالتعاون مع أخيه “رجا سلامة” باختلاس نحو 330 مليون دولار منذ 2002 على نحو يضر بمصرف لبنان. وفي يوليو من العام نفسه فتحت النيابة الوطنية المالية الفرنسية تحقيقاً حول عمليات تبييض أموال قام بها سلامة، وذلك إثر تحقيق سابق للسلطات الفرنسية في مارس 2021 بشأن قيام “رياض سلامة” باستغلال منصبه لاستخدام أموال مصرف لبنان المركزي لأغراض خاصة في فرنسا، كما أعلنت السلطات القضائية في لوكسمبورج (يوم 15 نوفمبر 2021) فتحها قضية جنائية تتعلق بـ”رياض سلامة” وما يملكه من أصول، وتبع ذلك تحركات ألمانية مماثلة، مما يشير إلى تخوف الدول الأوروبية من وجود شبكة تمارس جريمة منظمة تضطلع بتحويلات مالية مشبوهة.

3- الصراع على النفوذ السياسي في لبنان: تأتي موافقة لبنان على حضور محققين أوروبيين لاستجواب “رياض سلامة” في ضوء عدم قدرة القضاء اللبناني على إجراء تحقيق معه نظراً لما يتمتع به من نفوذ داخلي، فبالرغم من استدعائه أكثر من مرة وصدور مذكرة قضائية بمنعه من السفر في يناير 2022، إلا أنه مستمر في عمله وأداء مهام منصبه بدون أي تحفظات. ويُشار في هذا الصدد إلى أن من أسباب استهداف “سلامة” داخلياً هو محاولة قوى 8 آذار تحييد سيطرة قوى 14 آذار على قرارات السياسة النقدية في لبنان، لا سيما وأن “سلامة” من الموالين للأخيرة، ويدلل على ذلك ما يلي:

يتولى قيادة تحركات استهداف “رياض سلامة” رئيس التيار الوطني الحر “جبران باسيل”، أخذاً في الاعتبار أن وزير العدل “هنري خوري” تابع للتيار الوطني الحر، وبالتالي لم تعترض لبنان بشكل رسمي على حضور الوفد الأوروبي للتحقيق مع مواطنين لبنانيين بتهم فساد.

لم يظهر اعتراض من حزب الله على حضور القضاة الأوروبيين، وذلك بالرغم من رفض سابق للحزب ضد إجراء تحقيق دولي في تفجيرات مرفأ بيروت، وكذا رفض الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي لعدة اعتبارات من بينها رفض التدخلات الدولية بأي شكل من الأشكال في الشأن اللبناني.

في هذا السياق، في حالة التحقيق مع “رياض سلامة” من قبل القضاة الأوروبيين، وثبوت بعض التهم عليه، فسيشكل ذلك انتصاراً سياسياً لقوى 8 آذار، وحتى في حالة عدم ذهابه للتحقيق فقد يلقي هذا الضوء على صحة اتهامات فريق 8 آذار لـ”سلامة”، على خلفية أنهم المدافعون الأوائل عن حقوق الشعب اللبناني، وفي الوقت نفسه قد يوظفون ذلك الملف لتوجيه اتهامات ضمنية بوجود شخصيات نافذة من قوى 14 آذار تحمي الفساد في لبنان، في محاولة للانتقاص من شعبية القوى المناهضة للمحور الإيراني. وفي هذا الإطار، يُعد المكسب الرئيسي من اتهام “سلامة” هو عدم تجديد ولايته كمحافظ للمصرف المركزي والتي ستنتهي رسمياً في مايو 2023، وهو الأمر المحتمل أن يسفر عن اشتباك سياسي في لبنان، خاصة في حالة عدم وجود رئيس جمهورية يعين المحافظ الجديد.

4- ضمان استمرار الدعم الأوروبي للبنان: يواجه لبنان أزمة اقتصادية خانقة تدفعه لتقديم تنازلات في بعض الملفات للحصول على مساعدات خارجية لتفادي انهيار الدولة، ويُعد الشريك الأوروبي من أبرز مانحي لبنان بعد تراجع دعمه من المؤسسات الدولية والدول الخليجية، وهو ما دلل عليه تخصيص الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2022 نحو 229 مليون يورو لتعزيز الإصلاحات الضرورية والتنمية الاقتصادية خلال عام 2023، وربط الاتحاد الدعم المقدم للبنان بتنفيذ إصلاحات متعلقة بالإدارة العامة والتي تركز على النزاهة والشفافية والمساءلة.

لا يُستبعد أن يكون التحقيق مع مواطنين لبنانيين في تهم فساد أحد شروط منح لبنان المبلغ الذي تعهد به التكتل الأوروبي، وهي المساعدات التي تسهم في بقاء النظام الحالي في السلطة خلال السنوات المقبلة، وجدير بالذكر أن هناك تعهدات أوروبية سابقة، سواء عبر التعاون الثنائي أو عبر آليات الاتحاد الأوروبي، بدعم لبنان في مواجهة جائحة (كوفيد-19) المتوقع تفجرها خلال الفترة المقبلة، وكذا الدعم العسكري والأمني الأوروبي للبنان الذي يضمن استتباب الأمن ومواجهة الإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية لأوروبا.

تقاطع المصالح

في الختام، تقاطعت التوجهات الأوروبية لمكافحة الفساد مع الأهداف السياسية لقوى 8 آذار اللبنانية بشأن ضرورة إعفاء “رياض سلامة” من منصبه، الأمر الذي دفع بيروت للموافقة على إجراء جهات تحقيق أجنبية مع مواطنين لبنانيين في الداخل اللبناني، أخذاً في الاعتبار أن تبعات ذلك التحقيق ستصب في صالح القوى الموالية للمحور الإيراني التي قد تنجح في فرض سيطرتها على عملية اتخاذ قرارات السياسة النقدية في لبنان، إلا إذا مُورست ضغوط خارجية للتوافق على شخصية محايدة لإدارة المصرف المركزي، وكذا تجنب النخبة الحاكمة شبهة تسييس ذلك المنصب لعدم التعرض لانتقادات أوروبية تحول دون دعم لبنان مستقبلاً في ضوء تردي أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، مما يُشير إلى أن تقاطع المصالح بين النخبة الحاكمة اللبنانية والدول الأوروبية قد يكون حاضراً بقوة في المشهد اللبناني خلال الفترة المقبلة، خاصة في الشأنين الاقتصادي والمالي.