ما دوافع العراق لإنشاء “مدن صناعية” مع دول الجوار؟

بوابة الربط:

ما دوافع العراق لإنشاء “مدن صناعية” مع دول الجوار؟



شهد العراق توقف غالبية مصانعه بعد عام 2003، مما أدى إلى تسريح آلاف العاملين والاعتماد الكلي على البضائع المستوردة، التي جعلت من العراق سوقاً استهلاكية للدول المُصدرة. لكن مؤخراً جرى الحديث عن إنشاء مدن صناعية مع دول الجوار للعراق، بما يمكن أن يتيح الفرصة لتحسين الاقتصاد وإعادة توطين الصناعة في العراق من جديد، خصوصاً في إطار التوقعات بشأن أن تمتد هذه المدن مستقبلاً إلى الداخل العراقي، وبما يُساهم في تفعيل المحفزات الاقتصادية، ومحاولة جذب الاستثمارات المحلية والعربية والأجنبية، لتوفير فرص العمل، بالإضافة إلى تفعيل دور القطاعات المرافقة، مثل النقل والخدمات.

فقد أعلنت وزارة الصناعة والمعادن العراقية، في بيان لها، بتاريخ 19 ديسمبر الماضي، عن مساعٍ إلى فتح مدن صناعية واقتصادية جديدة، مع السعودية وإيران وتركيا، إضافة إلى المنطقة الصناعية المشتركة بين العراق والأردن. وتبحث السلطات العراقية عن التوجه نحو جذب الاستثمارات الخارجية، حيث أكد رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، في تغريدة له أن “قمة بغداد الثانية التي استضافها الأردن الشقيق أكدت دور العراق المحوري بالمنطقة”. وأضاف السوداني أن هذه القمة “ستكون منطلقاً لتنمية اقتصادية وشراكة جادة مرتكزها بغداد السلام”، مؤكداً: “سنواصل العمل مع الأشقاء لتحقيق أهدافنا الاقتصادية والتنموية”.

دوافع تنموية

في البيان الصادر عنها، حددت وزارة الصناعة والمعادن العراقية نسب الإنجاز في المدن الصناعية بالمحافظات، ومنها: المدينة الصناعية في “الأنبار”، حيث أُنجزت فيها المرحلة الأولى بالكامل، فيما شارفت المرحلة الثانية على الإنجاز، إذ بلغت نحو 70 بالمائة. والمدينة الصناعية في “ذي قار” وشهدت إنجاز المرحلتين الأولى والثانية، وبنسبة 100 بالمائة.

وإضافةً إلى ما كشفت عنه الوزارة عن رغبة من قبل الجانب التركي لإقامة مدينة صناعية دوائية في محافظة “نينوى”؛ فقد كشفت أيضاً عن وجود مدينتين صناعيتين قيد التطوير من قبل المستثمرين، هما مدينة “كربلاء” المتخصصة بالصناعات البتروكيميائية والنفطية، والمدينة الصناعية في “النجف” والتي تُعنَى بالصناعات غير الملوثة.

ولعل استراتيجية المدن الصناعية التي يسعى العراق إلى إنشائها مع دول الجوار، تنبني على عدد من الدوافع التنموية، أهمها ما يلي:

1- معالجة الخلل الحاصل في “المصنع” العراقي: إذ إن العراق بعد احتلاله في عام 2003، عاش طوال سنوات قاربت عقدين من الزمان، مشكلة صناعية لعدة أسباب، أهمها إجراءات “الفصل السابع” التي استمرت وعطلت المصنع العراقي تماماً، مع ما رافقها من سياسات تجارية حرة، وانفلات تجاري أدى إلى إغراق السوق المحلية، والقضاء على “الحرفة” وتعطيل المصنع العراقي، وهناك حوالي 270 مصنعاً عراقياً في القطاع العام أكثر من نصفها مُعطلة، وحتى الذي يعمل منها فهو دون الكفاءة الاقتصادية المطلوبة.

وبحسب ما يؤكده المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، في حديث له نُشر على موقع “إيرث نيوز”، في 25 ديسمبر المنصرم، فإن العراق يتصدر قائمة المستوردين لأغلب السلع التركية والإيرانية، حيث إن الصادرات السلعية للعراق من إيران سجلت 38 مليار دولار، في الأشهر العشرة الأخيرة، وذلك بنسبة نمو تصل إلى 38 بالمائة عن الفترة ذاتها من عام 2021.

2- توفير فرص عمل عبر صناعات غير تقليدية: حيث يبدو أن الهدف من هذه المدن الصناعية هو إنشاء صناعات ليست تقليدية، يمكن أن تتيح بعد إنجازها استفادة المنتجات والصناعات التي سيتم استحداثها داخلها من إعفاءات ومزايا موجودة لدى كل من العراق ودول الجوار الجغرافي له، وهو ما يعني أن هذه المدن سوف تُسهم في التنمية الاقتصادية المنشودة.

أضف إلى ذلك أن مشروع المدن الصناعية سوف يساهم في خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، على جانبي الحدود العراقية مع الدول المجاورة له؛ المباشرة في المدينة الصناعية الاقتصادية نفسها، وغير المباشرة من خلال وظائف مساندة للصناعات خارج المدينة الاقتصادية، إضافة إلى تعزيز أسطول النقل وتجارة التجزئة والصيانة ومحطات الوقود على طول الطريق المؤدي إلى المدينة، فضلاً عن تنشيط الحركة الاقتصادية والتجارية على جانبي الحدود.

3- استقطاب الاستثمارات المحلية والعربية والأجنبية: فمن الواضح أن مشروعات المدن الصناعية هي مشروعات جاذبة للاستثمارات في العديد من القطاعات، من خلال المزايا والحوافز والامتيازات التي ستمنح لهذه المدن، خصوصاً أن المنتجات والصناعات المنتجة فيها سوف تستفيد من إعفاءت ومزايا اتفاقيات التجارة الحرة، خصوصاً أن منظمة التجارة العالمية قد وضعت شروطاً لرعاية المناطق الحرة في العالم بغية تشجيعها.

إذ تضمّنت اتفاقية منظمة التجارة العالمية (WTO) تفاصيل ما يُسمى بالإعانات والتدابير التعويضية (SCM)، لتُعبر عن شروط وفوائد المناطق الحرة لمختلف دول العالم. ومن ثمّ سوف تستفيد المنتجات والصناعات الناشئة عن مثل هذه المدن الصناعية والاقتصادية، من دخول أسواق يتجاوز سكانها أضعاف سكان العراق، وبقدرة شرائية كبيرة دون أي قيود فنية أو جمركية؛ أي أسواق العراق ودول الجوار بالنسبة إليه، كون المنتجات المصنعة في هذه المدن ستأخذ صفة “المنشأ المشترك”.

4- تحسين الاقتصاد وتوطين الصناعات لدى العراق: حيث إن فكرة إنشاء مدن صناعية مشتركة بين العراق ودول جواره، تهدف إلى تحسين الاقتصاد المشترك، والأهم توطين الصناعات لدى العراق، واستثمار طلبات العراق من الاستيراد ليكون العراقيون جزءاً من تلك الصناعة، عبر المشاركة برؤوس الأموال أو العمالة، وفتح المجال أمام “المصنع العراقي” للاحتكاك المباشر مع الصناعات الإقليمية في تلك الدول، مما يخلق نوعاً من انتقال المعرفة الصناعية والتجارية كـ”خطوة” في اتجاه تفعيل القطاعات الصناعية العراقية.

وتأتي أهمية إنشاء المدن الصناعية في العراق بالتشارك مع الدول المجاورة له في تحويل المناطق النائية فيه إلى مناطق صناعية، فضلاً عن تشغيل العاطلين؛ خصوصاً أن العراق يمتلك المعادن التي يمكن الاستفادة منها في إنشاء مئات المصانع وتشغيلها. فالمدن الصناعية تساعد على نشأة المصانع الوطنية ونموها، كما تخلق تكاملاً بين المصانع الحكومية والخاصة نظراً إلى التقارب فيما بينها.

استراتيجية المدن

في هذا السياق، يمكن القول إن الخطوة العراقية في السعي لإنشاء مدن صناعية مع دول الجوار الجغرافي له، والتي يمكن اعتبارها بمثابة “استراتيجية المدن”، إنما تأتي أهميتها من كونها ستساهم في زيادة الاستثمارات البينية مع دول الجوار، عن طريق التحرك الثلاثي بين العراق والأردن ومصر، إضافة إلى التحرك المتجدد مع السعودية وإيران، فضلاً عن تركيا، ليكون العراق، عبر هذه الاستراتيجية، بوابة الربط الاقتصادي بين دول جواره.

وبالنسبة لدول الجوار العراقي، ومصالحها في إقامة عدد من المصانع، في المدن الصناعية المشتركة مع العراق، فتبدو لضمان استمرار التصدير إلى المستهلك العراقي، وتجاوز المسائل المتعلقة بالسياسات الجمركية أو تلك المتعلقة بالحمائية، فضلاً عن تخفيض التكلفة المتعلقة بالنقل وغيرها من القضايا التي تصب في مصلحة التنافسية التجارية، وأيضاً تسابق دول الجوار من أجل استحواذ أكبر في حصة التصدير التجاري للعراق.