الانسحاب الأمريكي من العراق وليبيا وأفغانستان وهشاشة القوة الأمريكية

إخفاقات متتالية:

الانسحاب الأمريكي من العراق وليبيا وأفغانستان وهشاشة القوة الأمريكية



أثار الكتاب الجديد الذي ألَّفه “نعوم تشومسكي”، الفيلسوف الأمريكي والمؤرخ والناقد والناشط السياسي، و”فيجاي براشاد”، المؤرخ الماركسي الهندي، والذي حمل عنوان “الانسحاب: العراق وليبيا وأفغانستان وهشاشة القوة الأمريكية”، حالة من الجدل في ظل تأكيده على الخسارة الأمريكية التي مُنيت بها الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد العراق وأفغانستان بالنظر إلى عدم تلبية أي من تلك الحروب أهدافها القومية الأمريكية من ناحية، وما خلفته من أضرار داخلية بالغة في تلك الدول من ناحية ثانية. وقد خلُص الكتاب إلى استنتاج مفاده أن الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط لا ينتقص من القوة الأمريكية ولا يمثل تهديداً لها بقدر ما يمثله الصعود الصيني، ولا سيما مع التحالف الروسي-الصيني المحتمل.

ويأتي هذا الكتاب ضمن الدراسات المعنية بدورات القوى؛ لا سيما أنه يسلط الضوء على القوة العسكرية الأمريكية، ويقيم مدى فاعليتها، ثم يحلل القوة الشاملة للولايات المتحدة بوصفها الدولة المهيمنة على قمة النظام الدولي مستشرفاً ملامح ما يهددها من تهديدات مستقبلية.

كارثية الانسحاب

عدد الكتاب الكوارث التي نجمت عن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وذلك على النحو التالي:

1- تزايد معدلات القتلى: في 15 أغسطس 2021، اضطر الجيش الأمريكي إلى الانسحاب من أفغانستان بعد احتلال دام عشرين عاماً. وستظل حصيلة القتلى الناجمة عن تلك الحرب محل خلاف، وإن ذهبت بعض التحليلات إلى أنها تسببت في مقتل مئات الآلاف من الأفغانيين. وقد خلُصت الأمم المتحدة -في إحدى دراساتها- إلى مقتل ما لا يقل عن 40% من الأطفال جراء الضربات الجوية الأمريكية. وتبعاً لوزارة الصحة العامة الأفغانية، يعاني 75% من الأفغانيين من اضطرابات نفسية ناجمة عن الحرب الأمريكية في أفغانستان، كما لا يمكن إغفال حقيقة مفادها أن نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر، وأن 60٪ من السكان لا يمكنهم القراءة أو الكتابة.

2- استنزاف الاحتياطي الأفغاني: وجدت حركة طالبان خزائن البنك المركزي الأفغاني في كابول فارغة. وتُشير التحليلات إلى وجود تلك الاحتياطيات -التي تقدر بنحو 9.5 مليارات دولار- في البنوك الأمريكية، لأن الولايات المتحدة استولت عليها لدفع التعويضات لعائلات الضحايا الذين سقطوا على خلفية أحداث 11 سبتمبر 2001. واللافت للأنظار أن أفغانستان اعتمدت على المساعدات الخارجية كمصدر رئيسي لإيراداتها، وقد قدرت بنسبة 43% من ناتجها المحلي الإجمالي في عام 2020، وهو ما تعرض لانهيار حاد في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان.

3- تدهور الاقتصاد الأفغاني: بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، انخفض الناتج المحلي الإجمالي الأفغاني بسبب تدهور المساعدات الخارجية بنسبة 20٪ في عام 2021، وبنسبة 30٪ في العام التالي. كما تقدر الأمم المتحدة أنه بحلول نهاية عام 2022، قد ينخفض ​​دخل الفرد في البلاد إلى ما يقرب من نصف مستويات عام 2012. وتشير التقديرات إلى أن 97% من الشعب الأفغاني سوف يقع تحت خط الفقر مع تزايد احتمالات حدوث مجاعة جماعية.

4- استهداف المدنيين الأفغان: تسببت ضربة الدرونز الأمريكية التي شنها الجيش الأمريكي على الأراضي الأفغانية في نهاية أغسطس 2021 في إصابة سيارة تقل عشرة أشخاص؛ من بينهم سبعة أطفال والمدعو “زيماري أحمدي” الذي تولى مسؤولية قيادة إحدى السيارات لصالح منظمة التغذية والتعليم الدولية (وهي مؤسسة خيرية مقرها باسادينا بولاية كاليفورنيا) وسط مزاعم تفيد بأنه كان عضواً في تنظيم داعش. وقد استغرق الأمر أسبوعين للاعتراف بأن الدرونز الأمريكية تسببت في مقتل مدنيين دون أن يترتب على ذلك إنزال العقاب بأي جندي، وهو ما يدلل على بشاعة الحروب الأمريكية في السنوات الأخيرة، بل وفشل الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها من ورائها، ولا سيما مع عودة حركة طالبان للحكم مرة ثانية.

تقييم الانسحاب

قيّم الكتاب الحروب الأمريكية ضد العراق وأفغانستان وليبيا من خلال جملة من النقاط التي يمكن الوقوف عليها على النحو التالي:

1- تراجع الجدوى من وراء شن الحروب الشرق أوسطية: بعد عامين من الحرب الأمريكية على أفغانستان، شنت الولايات المتحدة حرباً غير شرعية ضد العراق في عام 2003، وانتهت بانسحابها غير المشروط في عام 2011. وعقب انسحابها من العراق، قادت الولايات المتحدة حرباً مروعة ضد ليبيا في عام 2011 خلقت حالة من الفوضى في المنطقة. ولعل القاسم المشترك بين تلك الحروب هو عجز الولايات المتحدة عن إنشاء دولة موالية لها من ناحية، وزيادة معاناة المدنيين من ناحية ثانية.

2- عجز القوة العسكرية عن تحقيق الأهداف الأمريكية: امتلكت الولايات المتحدة ولا تزال أكبر جيش في العالم، ولا شك أنه باستخدام قوتها الجوية والبحرية يمكنها محاربة أي دولة في أي وقت، بيد أن ذلك لا بد أن يرتبط بقدرة موازية على تحقيق الأهداف السياسية المرجوة. فقد استخدمت الولايات المتحدة الدرونز المتطورة لاغتيال قادة طالبان، ولكن ذلك لم يَحُلْ دون ظهور زعماء جدد للحركة.

3- إنفاق أموال مهدرة على إعادة البناء: أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 2 تريليون دولار على حربها ضد أفغانستان. وفي تصريحات مبكرة عقب انسحاب الولايات المتحدة منها، قال “الملا بردار” إن حكومته ستركز اهتمامها على الفساد المستشري في البلاد. وفي غضون ذلك، انتشرت روايات في جميع أنحاء كابول عن محاولة وزراء آخر حكومة أفغانية موالية للولايات المتحدة مغادرة البلاد في سيارات مليئة بالدولارات والتي سبق أن قدمتها الولايات المتحدة لأفغانستان لأغراض البنية التحتية.

4- انتشار الفساد بين عناصر الجيش الأفغاني: قوض الفساد بشكل كبير من مهمة الولايات المتحدة في أفغانستان، وأضر بشرعية الحكومة الأفغانية. كما أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 2 تريليون دولار على الاحتلال الأمريكي لأفغانستان دون أن يوجه هذا الرقم إلى أغراض الإغاثة أو بناء البنية التحتية. وقد هدفت الولايات المتحدة إلى تدريب 300 ألف جندي من الجيش الوطني الأفغاني، وإن تراجعت معنويات الأخير خلال السنوات القليلة الماضية بعد أن سقطت كابول في أيدي حركة طالبان دون قتال.

5- تراجع فرص التسوية السياسية: أوضحت حركة طالبان في عدة مناسبات استعدادها لتسليم الزعيم السابق لتنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، إلى دولة ثالثة، وهو ما رفضته الولايات المتحدة. أما في الحالة العراقية، فقد فهمت حكومة صدام حسين في عام 1990 أنها أخطأت في غزو الكويت، وأرادت عقد صفقة مع الولايات المتحدة للخروج منها، وقد قوبلت كل محاولات العراقيين للتفاوض على انسحابهم بازدراء أمريكي، ولهذا السبب كان صدام حسين حريصاً على تقديم كل التنازلات الممكنة للولايات المتحدة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، مما سمح بمزيد من عمليات التفتيش التابعة للأمم المتحدة التي لم يعثر مفتشوها على أسلحة الدمار الشامل.

الجذور التاريخية

دلل الكتاب على صدق مقولته “عندما تريد الولايات المتحدة الحرب، فإنها تحصل على الحرب” بجملة من المؤشرات التي يمكن الوقوف عليها على النحو التالي:

1- مافيا تاريخية: شبه الكاتب سياسات الولايات المتحدة بالمافيا التي تعود إلى أيام الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين ممن حاولوا التفاوض مع المستوطنين، لكنهم واجهوا بدلاً من ذلك المدافع والبنادق. فالحروب الأمريكية تجد جذورها في الثقافة الاستعمارية الاستيطانية التي أسفرت عن اتساع مساحة الولايات المتحدة من الساحل الأطلسي عبر أراضي الأمريكيين الأصليين، والاستيلاء على ثلث المكسيك ثم الأراضي الفرنسية والروسية في ساحل الخليج وكاليفورنيا.

2- تعدد السوابق العسكرية: مع نشأة الولايات المتحدة، تجمعت الجيوش للاستيلاء على أرخبيل وبعض الجزر البعيدة وتحديداً: هاواي، وغوام، وبورتوريكو، والفلبين. وأثناء حرب الولايات المتحدة على الفلبين في عام 1898، أمر الجنرال “جاكوب سميث” قواته بقتل كل شخص فوق سن العاشرة. وفي فيتنام، قال “ليندون جونسون” (الرئيس الأمريكي آنذاك) “إنه حديث سخيف عن عدد السنوات التي سنقضيها في أدغال فيتنام”.

3- الهيمنة الأمريكية على الحلفاء الأوروبيين: دمرت الحرب العالمية الثانية معظم البلدان الصناعية المتقدمة، ولا سيما أوروبا واليابان والاتحاد السوفيتي. وفي المقابل، مع انتعاش الصناعة الأمريكية، تزايدت أهمية الدولار، فبدأت الولايات المتحدة في تحديد مسار حلفائها في أوروبا واليابان بقوة، وكذلك استخدام كل الوسائل اللازمة لشيطنة الاتحاد السوفيتي وتجاهل القانون الدولي.

المخاطر الراهنة

دفع الكتاب بأن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان والانسحاب فعلياً من العراق لا يمثل خطورة على الولايات المتحدة بقدر ما تمثلها المنافسة المحتدمة مع روسيا والصين، وهو ما يمكن الوقوف عليه تفصيلاً على النحو التالي:

1- اضمحلال القوة: تتزايد خطورة حملة الضغط التي تقودها الولايات المتحدة ضد الصين وروسيا، فقد أدت الحرب الأمريكية على العراق في عام 2003 والأزمة المالية العالمية في عام 2008 فضلاً عن الاستقطاب الداخلي الأمريكي إلى إضعاف قدرة البلاد على النحو الذي انعكس في عمليات الانسحاب من الشرق الأوسط، بيد أن هذا الضعف لا ينبغي تفسيره على أنه يعني زوال القوة الأمريكية أو نهاية “القرن الأمريكي”. إذ تمتلك الولايات المتحدة من القوة الشاملة ما يمكنها من الحفاظ على مكانتها لفترة طويلة.

2- التهديد الصيني: على الرغم من تقدمها تكنولوجياً، لا تشكل الصين تهديداً عسكرياً أو أمنياً للغرب، ولكنها تشكل تهديداً لفكرة أن الغرب وحده هو القادر على قيادة قطاعات معينة (مثل: الاتصالات السلكية واللا سلكية، والروبوتات، والقطارات عالية السرعة، والطاقة غير كربونية). وقد قامت الصين بتصدير نموذجها من خلال مبادرة الحزام والطريق (BRI) التي تمثل تحدياً لصندوق النقد الدولي ونادي باريس ونادي لندن، لا سيما أن البلدان الأفقر تفضل الاقتراض من البنوك الصينية على الاقتراض من البنوك الأمريكية. ويتجلى تهديد الصين للولايات المتحدة في حقيقة كونها لا تنصاع لأوامر واشنطن كما هو حال أوروبا.

3- الهشاشة الأمريكية: لا ترجع هشاشة الولايات المتحدة إلى تعدد نقاط ضعفها، بل إلى تحالف الصين وروسيا كما تجلى في الحرب الروسية-الأوكرانية على نحو يهدد النظام العالمي الذي تقوده، وهو ما يعني بالضرورة اهتزاز الهيمنة الأمريكية وتعدد محاولات الخروج عن القواعد التي أقرتها دولياً والتي تتجلى بصورة خاصة في ميثاق الأمم المتحدة.

ختاماً، على الرغم من الآثار الكارثية الناجمة عن حروبها ضد أفغانستان والعراق وليبيا، فإن ذلك لا يعني بالضرورة انتهاء عصر الهيمنة الأمريكية، بيد أن الأمر يتطلب توجيه النظر صوب منافسة القوى الصاعدة وتحديداً روسيا والصين، ذلك أن التنافس مع كلتيهما هو الذي سيحدد طبيعة النظام الدولي في العقود القادمة جنباً إلى جنب مع الحرب الروسية-الأوكرانية.

المصدر:

Noam Chomsky and Vijay Prashad, The Withdrawal Iraq, Libya, Afghanistan, and the Fragility of U.S. Power, (New York: St. The New press, 2022).