لماذا يرفض الاتحاد الأوروبي تعاون تركيا مع حكومة “الدبيبة” في قطاع الطاقة؟

مناطق التّماس:

لماذا يرفض الاتحاد الأوروبي تعاون تركيا مع حكومة “الدبيبة” في قطاع الطاقة؟



يشكل توقيع تركيا مذكرة تفاهم مع حكومة “الدبيبة” لتسهيل التعاون في مجال النفط والغاز، خطوة جديدة لتأكيد الحضور التركي في ليبيا، ولا سيما في أحد القطاعات الحيوية التي يعتبرها الاتحاد الأوروبي عنصراً هاماً في تحقيق أمن الطاقة الأوروبي، خاصة وأن الاتفاق يتعدى على حقوق اليونان البحرية (الدولة العضو في الاتحاد)، وقد يعرقل الاتفاق التركي-الليبي من أي مشاريع مستقبلية لبناء خطوط للأنابيب لنقل الغاز من شرق البحر المتوسط لأوروبا، مع احتمالية أن يؤثر التواجد التركي في قطاع الطاقة الليبي مستقبلاً على عمل شركات الطاقة الأوروبية واستثماراتها في ليبيا، علاوة على ذلك فإن الاتفاق يغير من موازين القوى في الداخل الليبي لصالح حكومة “الدبيبة” من خلال زيادة سيطرتها على عوائد النفط.

أبرز المتحدث الرسمي باسم المفوضية الأوروبية للشؤون الخارجية “بيتر ستانو”، في 3 أكتوبر 2022، رفض الاتحاد الأوروبي للاتفاق الموقّع بين تركيا وحكومة “عبد الحميد الدبيبة” بشأن التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في ليبيا. ولفت إلى أن الاتحاد أُحيط علماً بالتقارير التي تشير إلى أن تركيا وحكومة الوحدة الليبية قد وقعا اتفاقية بشأن الموارد الهيدروكربونية على أساس مذكرة التفاهم التركية-الليبية لعام 2019 بشأن ترسيم حدود المناطق البحرية بينهما، والتي قد سبق للاتحاد أن أعلن موقفه بشأنها من قبل المجلس الأوروبي في ديسمبر 2019، وهو ما لم يتغير حتى الآن. لافتاً إلى أن تلك المذكرة تنتهك الحقوق السيادية لدول ثالثة، ولا تمتثل لقانون البحار، وبالتالي لا يمكن أن تترتب على المذكرة أي عواقب قانونية للدول الثالثة، وطالب بمزيد من الإيضاحات بشأن المذكرة الجديدة التي تم توقيعها، لتجنب الأعمال التي يمكن أن تقوض الاستقرار الإقليمي.

وتجدر الإشارة إلى أن “نجلاء المنقوش”، وزيرة الخارجية والتعاون الدولي بحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، قد وقعت في 3 أكتوبر 2022 مع نظيرها التركي “مولود جاويش أوغلو” مذكرة تفاهم للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية، وتم التنويه على لسان “المنقوش” إلى أن مذكرة التفاهم بين الدولتين تصب في مصلحتهما، وتساهم في حل الأزمة العالمية بخصوص الطاقة الغاز. وفي السياق ذاته، لفت المتحدث باسم حكومة الوحدة “محمد حمودة” إلى أنّ مذكرة التفاهم بين الجانبين الليبي والتركي تسمح لهما بتبادل المعلومات والخبرات والتنقيب والبحث عن مصادر الطاقة واستغلالها، وذلك على صعيد استكشاف واستخراج وبيع الطاقة.

أبعاد الرفض

يتحسّب الاتحاد الأوروبي من مذكرة التفاهم الأخيرة التي تتيح لتركيا مزيداً من التواجد في قطاع النفط والغاز الليبيين لعدد من الأسباب التي لها تأثير على أمن الطاقة الأوروبي مستقبلاً، على النحو التالي:

1- التعدّي على حقوق اليونان البحرية: توفر مذكرة التفاهم الجديدة الموقّعة في 3 أكتوبر 2022، غطاء سياسياً وقانونياً للطرفين الموقّعين عليها، وذلك فيما يتعلق ببدء عمليات البحث والتنقيب على النفط والغاز في ليبيا، ولا سيما تلك الموجودة في البحر المتوسط، وهو ما يمثل تعدياً على حقوق اليونان البحرية (الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي، حيث إن اتفاق 2019 بين تركيا وليبيا يتعارض مع اتفاق تعيين الحدود البحرية بين اليونان مصر في يونيو 2020 (انظر خريطة رقم 1)، مما يفرض خطوطاً حدودية بحرية جديدة تتداخل مع تلك الحدود البحرية التي رسمتها تركيا مع ليبيا.

خريطة (1): تداخل المناطق البحرية لكل من تركيا/ ليبيا واليونان/ مصر

ووفق مذكرة التفاهم التركية-الليبية 2019، لا يجوز لليونان بدء عمليات للتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة المتنازع عليها، ونفس الحال بالنسبة لتركيا، وهو ما يعطل استخراج الغاز والنفط، نظراً للتواجد في تلك المنطقة المتداخلة، وهو ما يعرقل استغلال اليونان لمواردها البحرية في ظل الحاجة إليها، والتي يمكن أن تصبح مورداً مهماً للغاز الطبيعي لأوروبا مستقبلاً.

جدير بالذكر أن الموقف الأوروبي لم يكن الأول من نوعه، حيث اعترض الاتحاد أكثر من مرة على تحركات أنقرة التوسعية في شرق البحر المتوسط، وخاصة تلك المتعلقة بعمليات البحث والاستكشاف قبالة سواحل قبرص (العضو بالاتحاد)، لأنها تتداخل مع المنطقة الاقتصادية لقبرص، مما أسفر عن فرض الاتحاد عقوبات في يوليو 2019 على تركيا رداً على مواصلتها أعمال التنقيب التي تقوم بها في المياه الإقليمية القبرصية، وبالتالي لا يستبعد أن يتم فرض عقوبات أوروبية جديدة على تركيا حال إقدامها على خطوات تنفيذية للبحث والتنقيب عن الغاز والنفط في المناطق المتنازع عليها مع اليونان.

2- تقويض مشاريع استخراج ونقل الغاز: إن قيام تركيا بمد حدودها البحرية مع ليبيا، سيؤدي إلى اعتراض مد أي خطوط مقترحة لنقل الغاز الطبيعي، مثل خط “إيست ميد” الذي يستهدف نقل غاز إسرائيل وقبرص إلى اليونان لإيطاليا ومنه إلى الداخل الأوروبي، حيث أسفرت الخطوة التركية عن اعتراض مسار خط “إيست ميد”، وهو ما أوضحته وسائل الإعلام التركية التي قد نشرت خريطة رسّمتها أنقرة عام 2011 كخارطة حدود بحرية جديدة لنفسها تمتد نحو 200 كم داخل المتوسط، وأعادت استخدامها في بروتوكول الحدود بينها وبين ليبيا (انظر خريطة رقم 2). وفي هذا السياق، أكد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” (في يناير 2022) أن خط “إيست ميد” أو مشاريع أخرى مماثلة لا يمكن أن تنجح بمعزل عن تركيا، مبيناً أن عملية نقل الغاز الطبيعي من شرق المتوسط إلى أوروبا لا يتم إلا عبر تركيا.

خريطة (2): الخريطة التي رسمتها تركيا لحدودها البحرية في شرق المتوسط

(المصدر: وكالة الأناضول للأنباء)

إن مسار خط “إيست ميد” من المفترض أن يمر عبر المياه البحرية التركية (انظر الخريطة رقم 3)، وهو ما يستلزم موافقة من السلطات التركية، ويُشار إلى أنه من الصعب موافقتها على ذلك المشروع لرغبة أنقرة في أن تصبح ممراً للغاز الطبيعي من حوض شرق المتوسط لأوروبا، وذلك عبر بناء خط أنابيب بينها وبين إسرائيل، وهو الأمر الذي ترفضه تل أبيب للعديد من الاعتبارات، كما أن الاتحاد الأوروبي لا يريد أن تصبح تركيا هي المتحكم في نقل غاز شرق المتوسط إلى دولها، لذلك يعارض الاتحاد اتفاق ليبيا/ تركيا لأنه يخدم توجهات تركيا في هذا الصدد.

جدير بالذكر أن خط “إيست ميد” تم الرجوع عن إنشائه نظراً لتكلفته المرتفعة، ورؤية بعض التقديرات عدم جدواه الاقتصادية مقارنة بكميات الغاز المفترض نقلها، فضلاً عن دخوله في معترك الصراع على الحدود البحرية بين تركيا وقبرص واليونان؛ إلا أنه في الوقت نفسه يمثل بديلاً مهماً لجزء من الغاز الروسي الذي يتم توريده لأوروبا، وبالتالي لا يستبعد أن يتم إحياء ملف بناء خطوط أنابيب الغاز من شرق البحر المتوسط لأوروبا، والتي منها خط “إيست ميد”، لذلك يشكل التعاون البحري التركي-الليبي حجر عثرة في أي مخططات أوروبية في هذا الشأن.

خريطة (3): مسار خط أنابيب “إيست ميد” المقترح

(Source: www.themedialine.org)

3- الحفاظ على مصالح شركات الطاقة الأوروبية: تعمل العديد من الشركات الأوروبية في قطاع الطاقة الليبي، على رأسها شركة “إيني” الإيطالية، و”توتال” الفرنسية، و”بريتش بتروليم” البريطانية، وأيضاً “أو إم جي” النمساوية، و”ريباسول” الإسبانية، و”أكوانور” النرويجية، وتستثمر تلك الشركات نحو مليار دولار سنوياً في ليبيا (وفق ما ذكره “مصطفى صنع الله” رئيس مؤسسة النفط الوطنية الليبية السابق)، وبالتالي تهتم دول الاتحاد الأوروبي بالحفاظ على مصالح شركاتها وضمان إمدادات مستدامة من النفط، وبالتالي فالتواجد التركي قد يشوش على عمل تلك الشركات بشكل غير مباشر، خاصة إذا أسفر الدعم التركي عن زيادة نفوذ حكومة “الدبيبة” التي قد تضغط على تلك الشركات.

ويُذكر أن ليبيا تُعتبر دولة مهمة لإمدادات النفط والغاز لأوروبا مستقبلاً، في ضوء استحواذها على احتياطي نفطي مؤكد قُدر بنحو 48 مليار برميل، كما تملك احتياطات مؤكدة من الغاز الطبيعي قُدرت بـ53 تريليون قدم مكعبة (وفق إدارة معلومات الطاقة الأمريكية)، علماً بأن صادرات النفط الخام والغاز المسال الليبية للاتحاد الأوروبي شكلت نحو 6.2% من إجمالي ما استورده الاتحاد منهما في عام 2019 (وفق موقع Statista).

4- التحسب من السيطرة على عائدات النفط الليبية: إن دخول أنقرة على خط استخراج النفط والغاز الطبيعي في ليبيا، يوفر سيطرة أكبر لحكومة “الدبيبة” المنتهية ولايتها في يوليو 2022، لتعظيم سيطرتها على إدارة تلك العائدات عبر مؤسسة النفط الوطنية، وهو الأمر الذي يرفضه الاتحاد الأوروبي. ويدلل على ذلك حضور ذلك الملف في اجتماعات الدول الغربية، والتي كان آخرها تأكيد مسؤولي كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا في اجتماع عقد يوم 22 سبتمبر 2022 بنيويورك (على هامش الدورة 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة) على أهمية تحقيق التطلعات الليبية للإدارة الشفافة لعائدات النفط.

وترتبط عائدات النفط بإحداث حالة من عدم استقرار سياسي في الداخل الليبي، فضلاً عن التطورات الميدانية الناتجة عن تمويل حكومة الدبيبة للمليشيات الموالية لها، ويدلل على ذلك إدانة منظمة العفو الدولية قيام حكومة “الدبيبة” بتمويل 100 مليون دينار ليبي (نحو 21.6 مليون دولار) إلى “قوة العمليات المشتركة” في 10 فبراير 2022، الأمر الذي يعني أن التدخل التركي قد يصب في صالح حكومة الدبيبة على حساب القوى السياسية الليبية الأخرى، وهو ما قد لا يصب في مصلحة الاتحاد الأوروبي.

أبعاد متداخلة

في الختام، يمكن القول إن دخول تركيا على خط البحث والتنقيب عن موارد ليبيا من النفط والغاز، سواء البرية أو البحرية، يمسّ بشكل مباشر المصالح الأوروبية في مجال الطاقة، خاصة وأن مناطق التماس التي ترتطم بها مذكرة التفاهم التركية-الليبية تتداخل مع المناطق التي قد تشكل رافداً للغاز الطبيعي لأوروبا مستقبلاً، وهو ما تدركه أنقرة وتحاول توظيفه لكي تصبح رقماً فاعلاً في معادلة تحقيق أمن الطاقة الأوروبي، وفي الوقت نفسه أن تكون لاعباً محورياً في صناعة الغاز الطبيعي في حوض شرق المتوسط، مما يعيد فتح ذلك الملف في ضوء أزمة طاقة عالمية خانقة تدفع جميع الأطراف للتمسك بموقفها، وإن كان من الصعب التوصل إلى رؤية توافقية نظراً لتعدد أبعاد ومستويات الخلاف المرتبطة باستغلال موارد الطاقة في شرق البحر المتوسط.