لماذا نجحت تونس في الحدّ من أنشطة التنظيمات الإرهابية؟

مداخل متعددة:

لماذا نجحت تونس في الحدّ من أنشطة التنظيمات الإرهابية؟



كشفت وزارة الدفاع التونسية في بيان صادر عنها في 2 سبتمبر 2022، نجاح قوات مشتركة من الجيش الوطني والأمن في توجيه ضربة استباقية لخلية إرهابية مكونة من ستة أشخاص، تم القضاء على ثلاثة عناصر مسلحين منهم تابعين لتنظيم “جند الخلافة” التابع لتنظيم “داعش” في مرتفعات “جبل السلوم” بولاية “القصرين” الواقعة وسط غرب البلاد، وقد نجحت هذه العملية في القضاء على ثلاث قيادات كبرى في التنظيم (حافظ الرحيمي – خليل المنصوري – صابر الطاهري) وهي قيادات كانت تحتل مواقع كبيرة داخل التنظيم الإرهابي.

سياق غير مستقر

جاء الإعلان عن هذه العملية الأمنية في سياق عدد من المتغيرات التي طرأت على المشهد السياسي في تونس، ومن ذلك ما يلي:

1- فض اعتصام نقابات الأمن، تزامن الكشف عن هذه العملية الاستباقية مع نجاح قوات الأمن الشرطية في فض اعتصام نفذته النقابات الأمنية أمام عدد من المقرات الأمنية في عدة جهات داخل البلاد، حيث نفذت النقابات الأمنية هذا الاعتصام كإجراء تصعيدي ضد ما وصفته بالانتهاكات التي تعرضت لها من قبل وزارة الداخلية، ورفض هذه النقابات المقترح الرئاسي بتوحيدها في هيكل نقابي واحد؛ إلا أن النقابات الأمنية رفضت ذلك واعتبرته مقترحاً يتعارض مع حرية العمل النقابي.

2- الإعداد لقانون الانتخابات البرلمانية، إذ جاءت عملية القضاء على بعض قيادات تنظيم جند الخلافة بالتزامن مع إعلان الرئيس التونسي “قيس سعيد” الاتجاه لوضع قانون انتخابي جديد للإعداد لإجراء الانتخابات البرلمانية المقررة في 17 ديسمبر القادم، تنفيذاً لخريطة الإصلاحات السياسية والدستورية التي أعلنها الرئيس “سعيد” في 13 ديسمبر الماضي، وتم الانتهاء من الاستشارة الإلكترونية والاستفتاء الشعبي على الدستور الجديد للبلاد.

3- المطالبة بحكومة إنقاذ وطني، وفي ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وعدم قدرة الحكومة الحالية برئاسة “نجلاء بودن” على حلها، طالبت بعض القوى السياسية بتشكيل حكومة إنقاذ وطني تضم عسكريين، وهو المقترح الذي طرحه “حراك 25 يوليو” المؤيد للمسار الإصلاحي الذي يتبناه الرئيس “قيس سعيد”، ويهدف هذا المقترح إلى إجراء تعديل وزاري في الحكومة الحالية وخاصة وزارتي التجارة والاقتصاد.

إجراءات أمنية

رغم انحسار أنشطة التنظيمات الإرهابية بشكل كبير وملحوظ داخل الأراضي التونسية، إلا أن خطرها لا يزال قائماً، وفي هذا السياق جاءت عملية القضاء على العناصر الإرهابية الثلاثة التابعين لتنظيم “جند الخلافة” في إطار الإجراءات الأمنية المشددة التي تتبعها الدولة التونسية لاجتثاث جذور الإرهاب في البلاد، ولتحقيق ذلك تتبع الإجراءات التالية:

1- توجيه ضربات استباقية، تتبنى الدولة التونسية استراتيجية أمنية معروفة بتوجيه “ضربات استباقية” لأماكن ومواقع تمركز العناصر المسلحة التابعة للخلايا الإرهابية النائمة في عدد مختلف من الولايات التونسية، وعلى رأسها ولاية “القصرين” التي تضم أعلى قمة جبلية في تونس وهي جبال الشعباني التي تعد امتداداً لسلسلة جبال الأطلس الصحراوي، والتي تتخذها الجماعات الإرهابية ملجأ لها تختبئ فيه ونقطة ارتكاز للتخطيط لشن عمليات إرهابية ضد أهداف متنوعة في الداخل التونسي، وفي هذا الإطار جاءت العملية الأخيرة التي قضت فيها قوات الأمن على ثلاثة عناصر إرهابية فيما تبقى عنصر رابع تمكن من الهروب بعد القيام برصد عناصر إرهابية نشطة في المرتفعات الجبلية غربي البلاد، وقد نجحت هذه الاستراتيجية في تفكيك العشرات من الخلايا الإرهابية النائمة.

2- تصنيف الجبال مناطق عسكرية، قامت السلطات الأمنية في عام 2014 بتصنيف المناطق الجبلية والمرتفعات الجبلية في مختلف أنحاء البلاد ومنها جبل السلوم وجبال الشعباني الواقعة في ولاية القصرين الواقعة على الحدود التونسية الجزائرية المشتركة، مناطق “عمليات عسكرية مغلقة” ضمن إجراءات مكافحة الإرهاب، ومحاولات القضاء على العناصر المتطرفة التابعة لبعض التنظيمات الإرهابية والخلايا النائمة التابعة لها داخل البلاد والمنتشرة في المناطق الجبلية، وخلال شهر أغسطس الماضي شهدت هذه المناطق الجبلية مواجهات مباشرة بين قوات مكافحة الإرهاب وبعض العناصر الإرهابية في جبل “السلوم” أسفرت عن إصابة بعض عناصر الشرطة.

3- رصد وتتبع العناصر الإرهابية، تتبنى السلطات الأمنية استراتيجية خاصة تقوم على رصد وتتبع العناصر المسلحة المنتمية للتنظيمات الإرهابية وخاصة تنظيمي داعش والقاعدة، وفي هذا الإطار نجحت قوات مكافحة الإرهاب في رصد بعض العناصر الإرهابية في منطقة “بن قردان” الواقعة جنوبي البلاد ونجحت في مصادرة بعض الأسلحة والمعدات العسكرية (11 بندقية كلاشينكوف – 14 مخزن ذخيرة – 4400 طلقة) وتم ضبطها مع عناصر إرهابية كانت تنوي تهريبها إلى ليبيا.

4- محاسبة العائدين عبر التشريعات القانونية، تتبع تونس كذلك سياسة أمنية خاصة تهدف من خلالها لمحاسبة العناصر الإرهابية العائدة من الخارج، قبل العمل على احتوائها وإعادة دمجها داخل المجتمع، ولا سيما هؤلاء العائدين من سوريا والعراق الذين كانوا يحاربون في صفوف تنظيم داعش الإرهابي، وذلك من خلال سن تشريعات وطنية عُرفت باسم قانون “التوبة” الذي لاقى اعتراضاً واسعاً عند طرحه قبل عدة سنوات، إلا أن السلطات التونسية اتجهت لسن وصياغة تشريعات قانونية على رأسها قانون مكافحة الإرهاب لعام 2015، ومراجعة الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب والتطرف المعتمدة في عام 2016 للفترة 2021 – 2026، وذلك بغرض محاسبة العائدين من الخارج لتحييد قدراتهم على زعزعة الاستقرار الأمني في البلاد.

5- إجراء تحقيقات قضائية موسعة، شهدت الشهور الأخيرة قيام القضاء التونسي باستدعاء عشرات من أعضاء النواب المنحل، ومن أبرزهم رئيس البرلمان المنحل “راشد الغنوشي” (أمين حركة النهضة) للتحقيق معهم في اتهامات موجهة إليهم بالتورط في دعم وتمويل الأنشطة الإرهابية، وفي هذا الإطار شهد العام الأخير أكبر عدد من التحقيقات والمحاكمات المتعلقة بالإرهاب منذ عام 2011، حيث تشير المصادر التونسية إلى التحقيق مع 192 شخصاً بتهمة الإرهاب خلال عام 2021، وذلك بسبب التعافي في النظام القضائي، والإجراءات المشددة التي فرضها الرئيس “سعيد” لإصلاح المنظومة القضائية وحثّه على حسم القضايا المنظورة أمام القضاء المرتبطة بالإرهاب، وهو ما دفع الحزب الدستوري الحر لمطالبة الرئيس “سعيد” بالتحقيق مع أعضاء حركة النهضة وتصنيفها كتنظيم إرهابي.

6- تعزيز التنسيق الإقليمي والدولي، تعمل تونس على التعاون والتنسيق الأمني على المستويين الإقليمي والدولي، ومن ذلك الزيارة الأخيرة التي قامت بها رئيسة الحكومة التونسية “نجلاء بودن” إلى فرنسا واتفاقها مع الحكومة الفرنسية على ضبط عملية المهاجرين غير الشرعيين إلى فرنسا ومنها إلى الدول الأوروبية، حيث تم الاتفاق على منح تأشيرات الدخول للتونسيين كما كان في الماضي قبل أن تقرر فرنسا في سبتمبر 2021 تقليصها إلى نسبة 30% فقط، وذلك للرد على رفض دول المغرب العربي ومنها تونس إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لإعادة المهاجرين غير الشرعيين الموجودين داخل فرنسا.

بيئة حاضنة

رغم الحديث عن نجاح الاستراتيجية الأمنية التي تتبعها الدولة التونسية في مكافحة الإرهاب والتي تشمل إجراءات أمنية وقانونية متعددة، في الحد من أنشطة التنظيمات الإرهابية داخل البلاد، إلا أن هناك بعض العوامل التي قد تمثل بيئة حاضنة أو دافعاً نحو عودة النشاط الإرهابي المتطرف داخل البلاد، ومن ذلك ما يلي:

1- استمرار الأزمة السياسية، تُعد الأوضاع السياسية غير المستقرة بيئة مناسبة لبعض التنظيمات الإرهابية، ومنها جند الخلافة التابع لتنظيم داعش الإرهابي الذي يبدي اهتماماً بالانتشار والتمدد داخل الأراضي التونسية، ورغم الضعف الذي يتسم به هذ التنظيم في الوقت الحالي، فخلال السنوات الثلاث الأخيرة لم يتبنَّ التنظيم أي عمل إرهابي في تونس باستثناء العام الماضي، إلا أن حالة عدم الاستقرار السياسي قد تدفع التنظيم لاستغلال انشغال الدولة بالإصلاحات السياسية والدستورية التي تواجهها معارضة لدى قطاعات داخل المجتمع، لإعادة إحياء نشاطه مرة أخرى.

2- تسييس مكافحة الإرهاب، قد يستغل البعض وجود توجه لدى بعض الأحزاب السياسية وعلى رأسها حزب الدستوري الحر، الذي طالب بتصنيف حركة النهضة جماعة إرهابية والتحقيق مع كافة أعضائها بتهمة التورط في قضايا دعم وتمويل الإرهاب، وكذلك توظيف الإجراءات الاستثنائية التي يفرضها الرئيس “سعيد” لجذب بعض الشباب لتشكيل خلايا نائمة موالية لتنظيم داعش.

3- تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، قد تدفع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتراجعة في تونس حالياً ببعض أفراد المجتمع وخاصة في أوساط الشباب إلى الاستجابة لدعوات بعض التنظيمات الإرهابية التي تعمل بجد على استغلال المظالم المشروعة للشعب التونسي بسبب عدم قدرة الحكومة الحالية على إدارة الأوضاع الاقتصادية وإخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية الحالية، وإغراء الشباب العاطل عن العمل بالمال والسلاح في إطار استراتيجية تجديد دماء العناصر الإرهابية ليكونوا نواة لتنظيمات إرهابية داخل البلاد.

4- غياب جهاز أمني محترف لمكافحة الإرهاب، رغم كل هذه الإجراءات الناجحة في معظمها حتى الآن في تحييد قدرات التنظيمات الإرهابية على التمدد وتصعيد أنشطتها داخل البلاد، إلا أن هناك حاجة ماسة إلى تأسيس جهاز أمني يتسم بالاحترافية والدقة في التعامل مع قضايا الإرهاب والمتورطين فيها، وكذلك العائدين من الخارج. وفي هذا الخصوص يشير رئيس اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب في تونس “منير الكسيكسي” إلى أن ما يصل إلى 70% من المدانين في قضايا تتعلق بالإرهاب لم يتلقوا أي خدمات إعادة تأهيل أو إعادة دمج حتى انتهت أحكام سجنهم، وفي المقابل يؤدي الاعتقال لسنوات طويلة داخل السجون إلى جعلهم عرضة للتلقين من قبل العناصر الإرهابية الخطرة، وتكوين جيل جديد من المتطرفين الأكثر استعداداً لأن يصبحوا إرهابيين بعد خروجهم من المعتقلات.

خلاصة القول، تكشف عملية القضاء على ثلاثة من قيادات تنظيم جند الخلافة في ولاية القصرين، إلى أنه رغم انشغال مؤسسات الدولة بتنفيذ خريطة الإصلاحات السياسية والدستورية في البلاد، إلا أن السلطات الأمنية لا تزال قادرة على تطبيق الاستراتيجية الأمنية الخاصة بمكافحة الإرهاب والحد من تمدد نفوذ وأنشطة تنظيم داعش داخل البلاد خلال السنوات الأخيرة، ومع ذلك لا يمكن استبعاد سعي هذه التنظيمات لمحاولة إثبات قدرتها على البقاء والقدرة على التأثير، وذلك استغلالاً للأوضاع السياسية والاقتصادية غير المستقرة في البلاد.