ماذا بعد فشل حوار جنيف واحتجاجات “بالتريس” في ليبيا؟

تعقّد المسارات:

ماذا بعد فشل حوار جنيف واحتجاجات “بالتريس” في ليبيا؟



يبدو أن ليبيا مقبلة على استحقاقات سياسية صعبة، خاصة بعد إخفاق المحادثات التي أجريت في جنيف بين رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، فضلاً عن اندلاع ما يسمى بـ”حراك بالتريس”، في العاصمة طرابلس وبعض المدن الليبية، احتجاجاً على تفاقم الأزمات المعيشية وتعثر المرحلة الانتقالية. وسوف يفرض ذلك في مجمله مسارات مختلفة لما يمكن أن تؤول إليه التطورات السياسية في ليبيا خلال المرحلة القادمة.

قالت مستشارة الأمم المتحدة الخاصة بالشأن الليبي ستيفاني وليامز، في بيان أصدرته في 30 يونيو الماضي، إن المحادثات الليبية التي انعقدت في جنيف انتهت دون تحقيق تقدم كافٍ للمضي قدماً لإجراء انتخابات. وأضافت: “الخلافات لا تزال قائمة بشأن التأهل للترشح في أول انتخابات رئاسية”. وكانت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا قد قامت بتمديد اللقاء الذي تشرف عليه بين عقيلة صالح رئيس مجلس النواب، وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة في جنيف، يوماً إضافياً، في خطوة تُؤشر إلى صعوبة المحادثات الجارية بينهما بشأن النقاط العالقة في المسار الدستوري الذي ستُجرى على أساسه الانتخابات، وهي النقاط التي مثلت خلافات حول أهلية العديد من المرشحين المختلف عليهم، وكانت سبباً في عدم إجراء الانتخابات التي كانت مُقررة في 24 ديسمبر من العام الماضي.

يأتي هذا في وقت انطلقت في أول يوليو الجاري مظاهرات شعبية في العاصمة طرابلس، وامتدت إلى عددٍ من المدن الأخرى، وبالتحديد في مصراتة وطبرق والبيضاء وسبها، ضد ما يسمى بـ”الأجسام السياسية” في الدولة، مطالبة إياها بـ”الرحيل” فوراً، وتسليم السلطة والتعجيل بانتخابات نيابية ورئاسية في البلاد.

وعبر المتظاهرون عن غضبهم بإحراق الإطارات قرب مجلس النواب في طبرق، واقتحام المقر، وإحراق بعض المستندات. فضلاً عن ذلك، نشر المتظاهرون عدداً من المطالب على مواقع التواصل الاجتماعي، لما أُطلق عليه “حراك بالتريس” المدني، من بينها إلغاء قرار حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة برفع الدعم عن المحروقات، و”تفويض” المجلس الرئاسي لإعلان حالة الطوارئ وحل الأجسام السياسية التي تعرقل الوصول إلى الانتخابات.  

أزمة الخيارات

تبعاً للبيان الذي أعلنته ستيفاني وليامز، فإن طرفي الحوار في جنيف، صالح والمشري، قاما بمراجعة القضايا المُعلقة في مشروع الدستور الليبي، لعام 2017، وتبدت بينهما بعض نقاط التوافق، رغم وجود نقاط خلافية في الوقت نفسه، وذلك كما يلي:

1- توافق الطرفان على عددٍ من الصلاحيات، وصفها البيان بـ”غير المسبوقة”؛ بما في ذلك تحديد مقار المجلسين، وتخصيص عدد المقاعد في غرفتي السلطة التشريعية (البرلمان الليبي)، وتوزيع الصلاحيات بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء والحكومات المحلية.

كما تم التوافق بين المتحاورين، تبعاً لتأكيد بيان وليامز، على الشكل المحدد للا مركزية، بما في ذلك ترسيم عدد المحافظات وصلاحياتها، وآلية توزيع الإيرادات على مختلف مستويات الحكم، وزيادة نسبة تمثيل المكونات الثقافية. إلا أن مثل هذا التقدم الذي تم إحرازه، لا يُعتبر كافياً لإجراء انتخابات وطنية على أساسه بسبب وجود خلافات بين الطرفين.

2-كانت شروط الترشح لانتخابات الرئاسة نقطة الخلاف الرئيسية؛ فرغم التقدم في المحادثات، خلال ثلاث جولات في القاهرة، وواحدة في جنيف، فإن هذه النقطة ما تزال محل خلاف، خصوصاً حول من يمتلك جنسية دولة أخرى، أو من صدرت أحكام غير نهائية وباتة بحقه.

أيضاً، رغم أن مناقشة النقاط الخلافية في مسودة الدستور كانت عنوان اللقاء بين صالح والمشري في جنيف، إلا أنه من غير المعروف ومن غير المُعلن ما إذا كان “الوضع الحكومي” قد تمت مناقشته أم لا، هذا الوضع الذي يُعبّر عن الانقسام بين حكومتين، إحداهما يرأسها عبد الحميد الدبيبة، والأخرى يقودها فتحي باشاغا.

3- بدا أن بعض النافذين سياسياً لهم مصالح في استمرار الخلاف، والأمثلة كثيرة، فـ”القبول” بشروط الترشح يمنع خليفة حفتر من الإقدام على تلك الخطوة، لكن “تعديلها” لن يسمح له بالترشح فقط، بل يسمح أيضاً بترشح سيف الإسلام القذافي، خصوصاً شرط عدم وجود أحكام قضائية بحق المرشح، وهذا ما يجعل أمر تعديل هذه الشروط أو الإبقاء عليها محل جدل واختلاف.

كذلك، فإن استمرار الخلاف يخدم مصالح كل من عقيلة صالح وخالد المشري وحلفائهما في المجلسين؛ فعدم التوافق على إطار دستوري يعني تأجيل الانتخابات، بما يؤدي إلى بقائهما في السلطة إلى أقصى فترة ممكنة.

4- يدعم الخلاف حول الإطار الدستوري موقف المجلس الرئاسي بشكل واضح. ففي كلمة له، خلال لقائه مشايخ وحكماء وأعيان ليبيا، في 25 يونيو الماضي، أي قبل اجتماع جنيف بين صالح والمشري بثلاثة أيام، قال رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، إن “اجتماع جنيف سيكون هو الفيصل”؛ مؤكداً على أنه “لو فشل هذا الاجتماع فسيكون لنا كمجلس رئاسي دور باستخدام سلطتنا السيادية، حتى لا يترك الأمر للتمطيط والتأجيل”.

وفيما يبدو، لم يتوقّع المنفي فشل الحوار بين صالح والمشري في التوافق على القاعدة الدستورية المطلوبة لإجراء الانتخابات فحسب؛ بل طرح أحد المشاهد المستقبلية المتوقعة، بناءً على الإخفاق المحتمل في جنيف. ولعل ذلك يتواكب مع “تفويض” المجلس الرئاسي، من جانب متظاهري “حراك بالتريس” المدني، بإعلان حالة الطوارئ وحل الأجسام السياسية التي تعرقل الوصول إلى الانتخابات. 

تأثيران محتملان

يأتي فشل المحادثات الليبية في جنيف، برعاية الأمم المتحدة، في ظل مساعٍ دولية لإدارة الأزمة في بلد يعاني انقساماً سياسياً واقتصادياً وأمنياً؛ فضلاً عن الخلاف على السلطة بين رئيس الحكومة المُكلفة من مجلس النواب فتحي باشاغا، ورئيس الحكومة المُنتهية الولاية المتمسك بمنصبه عبدالحميد الدبيبة.

هذا الفشل، أو بالأحرى إخفاق حوار جنيف، يفتح الباب أمام العديد من المشاهد المستقبلية للأزمة في ليبيا، أهمها ما يلي:

1- إدارة مشتركة للأزمة الليبية عبر آلية دولية، أو من خلال تدخل مباشر للدول صاحبة المصالح في هذا البلد، خصوصاً من جانب القوى الكبرى. وفي هذه الحال، لن يكون التدخل عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بل مباشرة من القوى سواء الدولية صاحبة القرار النافذ في ليبيا، أو الإقليمية للدفاع عن مصالحها.

وفي حال التوافق على هذه الآلية الدولية، فلن يكون هناك أي صرف للموارد المالية إلا عبر لجنة ليبية تحت رقابة دولية صارمة، واجهتها لجنة المتابعة الدولية لـ”مؤتمر برلين”؛ ولكن في حقيقتها هي “حكومة دولية لليبيا”.

والمتوقع أن الرقابة الدولية ستكون مهامها الأمور التنفيذية، خاصة إدارة الموارد؛ ومن ثم ليس من المهم، بالنسبة لها، وجود حكومة واحدة أو حكومتين أو لا، لأن أياً منهما لن تتلقى أي أموال إلا عن طريق هذه اللجنة، وبعد موافقتها عليها.

ويبدو هذا الاحتمال كمشهد مستقبلي، في إطار البيان المشترك الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية، في 24 يونيو الماضي، الذي دعت من خلاله الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، القادة السياسيين الليبيين إلى التفاوض للخروج من الأزمة، والتوافق على مسار للانتخابات؛ خاصة مع تأكيد البيان على أن “العنف والتحريض على العنف وخطاب الكراهية أمور لا تغتفر وغير مقبولة”.

2- تنشيط دور المجلس الرئاسي ليتخذ خطوات تشريعية وتنفيذية، وهو أحد الاحتمالات، في إطار الدعم الأمريكي للمجلس لكي يقوم ببعض المهام التشريعية، حال تعطل المسار الدستوري، والفشل في التوافق على قاعدة دستورية لإجراء الانتخابات. وهذا نفسه ما سبق وأن أشار إليه المنفي في تصريحاته قبل أيام، مما يعطي انطباعاً بأن المجلس الرئاسي سيكون واجهة المسار الجديد.

ويبدو هذا الاحتمال كمشهد مستقبلي في إطار ما أعلنت عنه السفارة الأمريكية في ليبيا حول برنامج “مستفيد” برقابة دولية، والذي يتضمن آلية فنية لإدارة عائدات النفط. وكان السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، قد قال في سلسلة تغريدات نشرتها السفارة الأمريكية، في 28 يونيو الماضي: “إن الجهود جارية بدعم دولي لإنشاء آلية بقيادة ليبية لتوفير الشفافية، فيما يتعلق بكيفية إنفاق عائدات النفط”.

وتبدو الخطة الأمريكية محاولة لـ”تحييد” النفط الليبي، وإخراجه من الصراع الداخلي، لضمان تخفيف الضغط على الطلب العالمي، وإيجاد مصادر بديلة لحلفاء واشنطن الأوروبيين؛ لأجل تخفيف الضغوط على قطاع الطاقة، في ظل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما تبعها من عقوبات غربية على النفط والغاز الروسيين.

تدخل دولي

ختاماً، يمكن التأكيد على أن فشل حوار جنيف، في الوقت الذي يؤشر فيه إلى أن الخلاف في المسار الدستوري هو خلاف بين تيارين سياسيين يتصارعان في البلاد؛ يدفع إلى احتمال التدخل الدولي في الأزمة الليبية، وهو بهذا يفتح المجال أمام إدارة دولية للأزمة الليبية، سواء بتدخل مباشر لبعض الدول صاحبة القرار والمتنفذة في تفاعلات الساحة الليبية، أو عبر آليات دولية مختلفة، أو من خلال تنشيط دور المجلس الرئاسي ليتخذ خطوات تشريعية وتنفيذية؛ وهو ما يعني أن الملامح الرئيسية للمرحلة القادمة تتسم بما يمكن أن يطلق عليه “تعقد المسارات” بخصوص حلحلة هذه الأزمة، في ظل التفاعلات التي تجري على الساحة من تصاعد الرفض الشعبي لكل الأجسام السياسية، التي تعرقل الوصول إلى الانتخابات.