لماذا تأجّلت جلسات الحوار الوطني في السودان؟

رفض الشراكة:

لماذا تأجّلت جلسات الحوار الوطني في السودان؟



أعلن “فادي القاضي” المتحدث باسم البعثة الأممية “يونيتامس”، في 11 يونيو الجاري، تأجيل هذه الجولة إلى أجل غير مسمى، وأرجع سبب ذلك التأجيل إلى استمرار عدم التوافق السياسي بين المكونين المدني والعسكري، وجاء ذلك عقب انطلاق جولات الحوار الوطني بين المكونات الفاعلة في السودان في 8 يونيو 2022، بمشاركة ممثلين عن الجبهة الثورية، أبرزهم “جبريل إبراهيم”، وممثلون عن التيار المنشق عن الحرية والتغيير “الوفاق الوطني”، وممثلون عن حزب “الاتحادي الأصل”، إضافة إلى حزب “المؤتمر الشعبي” (الذي أسسه زعيم الإسلاميين الراحل “حسن الترابي”)، بالإضافة إلى عدد آخر من المشاركين في السلطة الحالية، أو موالين لنظام الرئيس المعزول “عمر البشير”، بالإضافة إلى المكون العسكري ممثلاً في كل من نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول “محمد حمدان دقلو” (الجنرال حميدتي)، وعضو مجلس السيادة الفريق “شمس الدين كباشي”، وعضو المجلس الفريق “إبراهيم جابر”، ويُكوّن ثلاثتهم “اللجنة العسكرية الثلاثية” للمشاركة في الحوار.

عوامل دافعة

يمكن تفسير إعلان بعثة “يونيتامس” تأجيل الجلسة الثانية من الحوار الوطني التي كان مقرراً لها الانعقاد في 12 يونيو الجاري، من خلال جملة من العوامل التي دفعت أعضاء الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، الإيجاد، الاتحاد الأفريقي) لذلك، ومن أهمها ما يلي:

1- رفض الشراكة مع المكون العسكري: حيث أعلن تحالف قوى الحرية والتغيير رفض المشاركة في الحوار الوطني، وأرجع المسؤولون في التحالف سبب ذلك إلى أن المشاركة في هذا الحوار من شأنها شرعنة الانقلاب العسكري على السلطة، كما أنه يعد حلاً سياسياً زائفاً. وجاء هذا الرفض بعد أن شارك ممثلون عن التحالف في اجتماع غير رسمي مع ممثلين عن المكون العسكري في 9 يونيو الجاري بالعاصمة الخرطوم. ويبدو أن هذا الاجتماع منح قوى الحرية والتغيير دافعاً قوياً للتأكيد على عدم مشاركتهم في هذا الحوار، فمن الواضح أن المكون العسكري لا يزال متمسكاً برؤيته الخاصة بكيفية إدارة المرحلة الانتقالية والبقاء على رأس السلطة الانتقالية.

في حين تطالب قوى الحرية والتغيير بإنهاء كافة أوجه الانقلاب العسكري، وتسليم السلطة للمكون المدني، وعودة الجيش إلى ثكناته. إذ تتهم قوى الحرية والتغيير الجيش بعدم الالتزام بشكل كافٍ بتنفيذ باقي إجراءات بناء الثقة (وقف استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين، الإفراج عن باقي المعتقلين السياسيين..). كما تطالب قوى الحرية والتغيير بمنح فترة زمنية كافية للأحزاب السياسية حتى تتمكن من المشاركة في أية استحقاقات انتخابية قادمة والتي حددها المكون العسكري من قبل في يوليو 2023.

2- غياب فاعلين رئيسيين عن فعاليات الحوار الوطني: مع استمرار رفض تحالف قوى الحرية والتغيير لمشاركتها في الحوار الوطني، فقد رأت الأمم المتحدة بالتنسيق والتشاور مع الاتحاد الأفريقي والإيجاد عدم جدوى عقد جولة جديدة من هذا الحوار دون مشاركة قوى الحرية والتغيير باعتبارها فاعلاً رئيسياً ورقماً صعباً في معادلة الحياة السياسية الانتقالية بالبلاد، وبالتالي لا يمكن عقد حوار وطني حقيقي في ظل غياب هذه القوى السياسية التي تُعد فاعلاً رئيسياً في معادلة توازنات القوى السياسية على الأرض، ومن ثم جاء القرار بتأجيل الجولة الثانية من الحوار الوطني إلى حين اقتناع الحرية والتغيير بضرورة المشاركة.

3- ضرورة إجراء محادثات مباشرة بين الأطراف المتنازعة: ترى الأطراف الممثلة للآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، الإيجاد، الاتحاد الأفريقي) ضرورة إجراء حوار مباشر بين المكونين المدني ممثلاً في قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين، وعدد من الأحزاب السياسية الأخرى، والمكون العسكري؛ وذلك حتى يتم التوصل لتفاهمات بين هذه المكونات تستند إلى الحقائق الداخلية والمحلية في السودان.

4- احتمالية تفتيت المعارضة السودانية: ترفض لجان المقاومة السودانية مشاركة قوى الحرية والتغيير في هذا الحوار؛ لأن ذلك يمنح الانقلاب العسكري شرعية داخلية، كما أن ذلك يؤدي إلى تفتيت موقف معسكر الثورة الشعبية المعارِضة للانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية في 25 أكتوبر الماضي.

5- عدم الاستجابة للمبادرات الإقليمية: يأتي تأجيل الجولة الثانية من الحوار الوطني في ظل عدم استجابة المكونات السودانية للمبادرات الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة السياسية الحالية بشكل مباشر. فرغم تدخّل المملكة العربية السعودية لتلعب دور الوسيط بين هذه المكونات وذلك بالتنسيق مع واشنطن، ونجاحها في عقد جلسة غير رسمية بين ممثلي المجلس العسكري وممثلي اللجنة المركزية للحرية والتغيير لتبادل وجهات النظر حول كيفية حل الأزمة السياسية الحالية، وكذلك من أجل التوصل لعملية تؤدي إلى انتقال ديمقراطي في 9 يونيو الجاري؛ إلا أن ذلك لم يَحُلْ دون إعلان قوى الحرية والتغيير رفضها المشاركة في جلسات الحوار.

هذا بالإضافة إلى رفض المكون العسكري الاستجابة للمطالب الدولية بالتنازل عن السلطة وتسليمها للمدنيين، مشترطاً إجراء انتخابات برلمانية تسفر عن حكومة وطنية منتخبة، وأيضاً عدم نجاح الضغوط الأمريكية على الجيش السوداني لإقناعه بتسليم السلطة للمدنيين، وهو ما ظهر بوضوح خلال الزيارة الأخيرة التي قامت بها “مولي في” مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للسودان خلال الفترة 5 – 9 يونيو الجاري.

6- الاختلاف حول آليات ومعايير إجراء الحوار: إذ يُعد من ضمن العوامل التي ساهمت في إفشال عقد جولة جديدة من الحوار الوطني السوداني، الخلافات التي أثارتها سبل وكيفية إجراء الحوار الذي يقوم على فكرة رعاية الآلية الثلاثية للحوار، وفي الوقت نفسه اختيار المشاركين فيه، وهو ما ترتب عليه مشاركة بعض المكونات التي لا تُمثَّل عن قطاعات واسعة من الشعب السوداني، الأمر الذي دفع البعض للمطالبة بإيجاد آلية جديدة تقوم على أساس توسيع قاعدة المشاركة لتشمل النقابات والقواعد الشعبية المختلفة. كما تعترض بعض الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة داخل المجتمع السوداني على فكرة إقصائها من المشاركة في هذا الحوار، وعلى رأسها حزب المؤتمر الوطني المنحل (الحاكم سابقاً)، والإسلاميون الذين شاركوا في التفاعلات السياسية خلال عهد الإنقاذ السابق قبل عزل الرئيس “عمر البشير”.

سيناريوهان محتملان

وفي ضوء المعطيات الراهنة والمرتبطة بإشكالية إجراء الحوار الوطني بين المكونين المدني والعسكري في السودان؛ فإنه يمكن القول بوجود بعض السيناريوهات المحتمل حدوثها، ومن ذلك ما يلي:

السيناريو الأول- إجراء الجولة الثانية من الحوار في أقرب وقت: ويرجح هذا السيناريو استئناف جولات الحوار الوطني على المدى القريب، ويستند هذا السيناريو إلى إدراك القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة السودانية أهميةَ القوى السياسية التي غابت عن الاجتماع الأخير، وذلك في إطار محورية دورها في عملية الانتقال المدني الديمقراطي، ويؤكد على ذلك إعلان ممثلي الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأفريقي، الإيجاد) عن تشكيلهم لجنة اتصال تكون مهمتها إقناع قوى الحرية والتغيير بالمشاركة في الحوار الوطني، كما أن كافة المشاركين في الجلسة الأولى من الحوار أكدا على الشيء نفسه بضرورة مشاركة هذه القوى في الحوار، وأن وجودهم ضروري لإنجاح الحوار بما يُسهم في إدارة المرحلة الانتقالية بقيادة القوى السياسية المدنية، هذا إلى جانب الدور الذي تلعبه السعودية حالياً كوسيط بين المكونين العسكري والمدني.

السيناريو الثاني- فشل إجراء الحوار الوطني: ويرجح هذا السيناريو عدم عقد الجولة الثانية واستمرار تأجيل جلسات الحوار الوطني، وذلك استناداً إلى الموقف الرافض لتحالف الحرية والتغيير (قحت) واشتراطها تسليم السلطة للمدنيين كشرط أساسي للمشاركة فيه، هذا إلى جانب استمرار غياب التوافق السياسي بين المكونات السودانية المختلفة، وعدم إدراكهم ضرورةَ تقديم تنازلات سياسية تسهم في دفع الحوار الوطني والتوصل إلى حل توافقي فيما بينهم. وفي المقابل، يشترط المكون العسكري ضرورة التوصل لتوافق وطني أولاً قبيل تسليم السلطة للمدنيين، وهو ما ظهر في التصريحات الأخيرة للفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان” قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، التي أشار فيها بشكل واضح إلى أن الجيش لن ينسحب من الحياة السياسية إلا بشرط إجراء الحوار بين كافة الأطراف، والتوصل لمخرجات تشمل إجراء انتخابات برلمانية حرة ونزيهة بانتهاء الفترة الانتقالية الحالية. ويؤيد موقف الجيش في هذا الشأن مجموعة من الأحزاب والقوى السياسية، من أبرزها مجموعة التوافق الوطني المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، والتي تؤيد مشاركة الجيش في السلطة الانتقالية، وترفض السماح لما يطلق عليه “أربعة طويلة” (حزب الاتحادي الأصل– حزب الأمة القومي– حزب البعث– حزب المؤتمر السوداني) بالعودة مرة أخرى للسلطة.

إطار انتقالي

خلاصة القول، تكشف المعطيات الراهنة عن استمرار حالة عدم التوافق السياسي بين الأطراف السودانية، حيث يتمسك كل طرف بشروطه دون الاستعداد لتقديم تنازلات من شأنها حل الأزمة السياسية الحالية. وبناءً على ذلك، من المرجّح أن تستمر الأزمة السياسية في السودان، وسيظل تسويتها رهناً بإيجاد أرضية مشتركة بين المكونين العسكري والمدني بصورة أساسية. ومن المرجح كذلك أن تواصل الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطها على الجيش السوداني إلى حين الاستجابة لمطالبها بتسليم السلطة للقوى السياسية، بعد أن يتم إجراء حوار وطني بناء وتحقيق تقدم إيجابي يسفر في نهاية الأمر عن إنشاء إطار مدني انتقالي.