لماذا تتكرر الاشتباكات القبلية في السودان؟

فراغ أمني:

لماذا تتكرر الاشتباكات القبلية في السودان؟



يشهد السودان في الوقت الراهن اندلاعاً متكرراً ومتجدداً للاشتباكات القبلية في عددٍ من الولايات المختلفة بشكل متزامن مع انطلاق أولى جلسات الحوار الوطني الذي دعت إليه الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة – الاتحاد الأفريقي- الإيجاد) بين المكون العسكري ومجموعة التوافق الوطني المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، الأمر الذي يثير التساؤلات حول أسباب تجدد هذه الاشتباكات في ولايات غرب دارفور وجنوب كردفان، ووجود حالة من الاضطراب الأمني في إقليم شرق السودان.

حالات كاشفة

يُعد من أبرز هذه الاشتباكات التي يشهدها عدد من الولايات السودانية ما يلي:

1- اشتباكات كلبس بدارفور: شهدت محلية “كلبس” التابعة لولاية غرب دارفور والتي تبعد حوالي 160 كم عن عاصمة الولاية “الجنينة”، اندلاع اشتباكات مسلحة ممتدة منذ 7 يونيو الجاري، بين بعض القبائل العربية التي ارتكب أحد أعضائها هجوماً مسلحاً على قبيلة “القمر” غير العربية أسفر في البداية عن مقتل ثمانية أشخاص من قبيلة القمر، واتسعت الاشتباكات لتصل إلى حرق عدد من القرى، وهذه ليست المرة الأولى التي يشهد فيها غرب دارفور مثل هذه الاشتباكات، ففي شهر أبريل الماضي تكررت هذه الاشتباكات التي أسفرت وقتها عن مقتل أكثر من 200 شخص إثر مواجهات بين قبائل عربية وقبيلة “المساليت” الإفريقية.

2- اشتباكات أبو جبيهة جنوب كردفان: شهدت تلك المنطقة التي تقع شرقي جنوب كردفان في جنوب البلاد، اندلاع اشتباكات مسلحة بين قبيلتي “كنانة” و”الحوازمة” البدويتين، مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً وإصابة 35 آخرين.

3- اضطرابات أمنية شرق السودان: كما شهدت ولاية البحر الأحمر خلال اليومين الماضيين حالة من عدم الاستقرار الأمني بسبب تنظيم قبائل البجا اعتصاماً مفتوحاً أمام مقر الحكومة المحلية بالولاية، وذلك احتجاجاً على عدم الاستجابة لمطالبهم بإقالة والي الولاية “علي عبد الله أدروب”، حيث اتهمته قبائل البجا بطلب الدعم من بعض الأشخاص المتورطين في إشعال العنف القبلي بالإقليم لتمويل مشاريع تنموية، وهو ما اعتبره المجلس تنفيذاً غير مباشر لمسار الشرق، وهو ما دفع الوالي لتقديم استقالته استجابة لمطالب المتظاهرين، وهو ما أدى بهم إلى إعادة فتح الطرق المؤدية للموانئ الرئيسية الواقعة على البحر الأحمر.

عوامل مفسرة

يمكن تفسير تجدد الاشتباكات القبلية المسلحة داخل عدد من الولايات السودانية، وعلى رأسها ولايات غرب دارفور وجنوب كردفان، والاضطرابات الأمنية في ولاية البحر الأحمر شرقاً، من خلال عدد من العوامل، من أبرزها ما يلي:

1- ضعف الحكومة المركزية السودانية: تمثل إشكالية ضعف الحكومة المركزية في فرض هيبة وسيادة الدولة داخل الولايات السودانية المختلفة، ولا سيما تلك التي تشهد هذه الاشتباكات المسلحة، أحد أهم العوامل التي تدفع القبائل لاستغلالها واللجوء لاستخدام السلاح ضد بعضها بعضاً. ويتخذ ضعف الحكومة المركزية عدة صور تشمل عدم القدرة على جمع السلاح من أيدي الأفراد والقبائل، وعدم القدرة أيضاً على إجبار هذه القبائل على الالتزام بتنفيذ ما تم توقيعه من اتفاقات سابقة للصلح، وكذلك غياب تطبيق القانون وفرض عقوبات صارمة ضد المخالفين لاتفاقيات الصلح والمتسببين في اندلاع هذه الاشتباكات، بالإضافة إلى تداعيات امتداد الأزمة السياسية الراهنة منذ الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية في أكتوبر الماضي على تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي داخل هذه الولايات، وانشغال السلطات الانتقالية بالخلافات القائمة بين المكونين المدني والعسكري بشأن كيفية إدارة المرحلة الانتقالية الراهنة.

2- انتهاء مهمة قوات حفظ السلام الأممية في غرب دارفور: تعاني الولايات السودانية التي تتجدد بها الاشتباكات القبلية المسلحة من فراغ أمني ملاحظ، ويرجع سبب هذا الفراغ في أحد جوانبه إلى إنهاء مهمة قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في إقليم غرب دارفور وذلك عقب توقيع الجماعات المسلحة في الإقليم على الاتفاق النهائي للسلام مع الحكومة الانتقالية السابقة برئاسة “عبدالله حمدوك” في أكتوبر عام 2020، وكان من المفترض أن تحل القوات الحكومية محل قوات حفظ السلام؛ إلا أن ذلك لم يحدث في ظل عدم تنفيذ البند الخاص بالترتيبات الأمنية وفقاً لما نص عليه اتفاق جوبا للسلام.

كما أن قوات الشرطة المتواجدة في إقليم دارفور غير قادرة على منع اندلاع مثل هذه الاشتباكات القبلية المسلحة، بسبب تأخر وصولها لمناطق الاشتباكات، ففي الاشتباكات الراهنة بغرب دارفور قامت المليشيات بنصب فخ للتعزيزات العسكرية التي أرسلتها الحكومة السودانية والمكونة من قوات الدعم السريع والجيش والشرطة، مما أدى إلى تأخر وصولهم لمناطق الاشتباكات، وبالتالي فرار الجناة وعدم التمكن من القبض عليهم، أو لانتماء بعض أفرادها لأحد أطراف الصراع على حساب الأخرى، وهو ما يوفر فراغاً أمنياً دافعاً لكل من يحمل السلاح في هذه الولايات لارتكاب أعمال عنف على النحو الذي تشهده هذه الولايات بين حين وآخر.

3- الخلاف حول ملكية الأراضي والرعي: دائماً ما تتجدد الاشتباكات القبلية المسلحة بسبب الخلافات القائمة بين المكونات القبلية القاطنة في ولايات غرب دارفور وجنوب كردفان، وهذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها هذه الولايات اشتباكات مسلحة بسبب الصراع حول الموارد الطبيعية المحدودة ممثلة في أماكن الرعي وآبار المياه الصالحة للشرب، ففي غرب دارفور، على سبيل المثال، تتجدد الاشتباكات القبلية بسبب الخلاف الدائم بين عناصر قبيلة المساليت الذين يعملون كمزارعين فيما تعيش القبائل العربية على الرعي، وهو ما يمثل سبباً رئيسياً وراء تجدد الاشتباكات المسلحة بين هذه القبائل على النحو الذي أدى إلى نزوح الآلاف من المواطنين بسبب هذه الاشتباكات.

4- امتلاك أفراد القبائل للأسلحة: تشير كافة الاشتباكات المسلحة التي وقعت بين معظم القبائل المتصارعة في ولايتي جنوب كردفان وغرب دارفور إلى انتشار السلاح بصورة كبيرة بين أفراد هذه القبائل والتي بدأت تنتشر خارج القوات النظامية منذ عام 2003 مع بداية الحرب الأهلية في دارفور، وتشير المصادر المتاحة إلى أنهم يحصلون على هذه الأسلحة عن طريق التهريب من دول تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى عبر الحدود المشتركة مع السودان، وأيضاً عن طريق الاستيلاء عليها من معسكرات الجيش السوداني بالنهب والسرقة. وفي عام 2020 أشارت “اللجنة العليا لجمع السلاح والسيارات المهربة” التي أنشأتها الحكومة الانتقالية السابقة، إلى وجود حوالي 2.5 مليون قطعة سلاح غير مقننة تشمل “راجمات” و”أسلحة ثقيلة” و”خفيفة”، يمتلكها أفراد أو مجموعات قبلية في السودان، وأن 90% منها في منطقة دارفور وحدها، وهو ما يفسر تجدد الاشتباكات المسلحة في إقليم دارفور دائماً.

السيناريوهات المحتملة

هناك بعض السيناريوهات المحتملة بشأن الاشتباكات القبلية المسلحة في السودان، ومن ذلك ما يلي:

السيناريو الأول- استمرار الاشتباكات على النحو القائم: ويرجح هذا السيناريو أن تستمر الاشتباكات القبلية المسلحة على النحو الذي تشهده ولايتا جنوب كردفان وغرب دارفور، بمعنى أن تتصاعد الاشتباكات ثم تهدأ حدتها، ثم تعود للاندلاع مرة أخرى عقب فترة زمنية قد تطول أو تقصر، ويرتبط ذلك بمدى قدرة السلطات الانتقالية على وضع حد لهذه الاشتباكات ومنعها من الانتشار على نطاق واسع، وذلك عبر إرسال التعزيزات العسكرية ومحاولة التواصل مع بعض الزعماء المحليين في مناطق نشوب هذه الاشتباكات، إلا أن عدم حل أسباب الخلافات بين المكونات القبلية القاطنة في هذه الولايات بشكل جذري يؤدي إلى تكرار حدوثها، وهو ما يرجح تكرارها وتجددها مستقبلاً.

السيناريو الثاني- امتداد الاشتباكات إلى حرب أهلية: يرجح هذا السيناريو أن يؤدي عدم الحل الجذري لأسباب الصراعات القبلية، إلى أن تتحول هذه الاشتباكات إلى حرب أهلية كالتي شهدتها دارفور في عام 2003، ويستند هذا السيناريو إلى أن الفترات الزمنية لتجدد هذه الاشتباكات أصبحت متقاربة للغاية، كما أن الحكومة المركزية لم تنجح في وضع حلول جذرية لتجنب حدوث هذه الاشتباكات، أضف إلى ذلك عدم تعاون القبائل مع السلطات الانتقالية في حل هذه المشكلات، وتفضيل اللجوء إلى استخدام السلاح لحسم الصراعات والخلافات بين أفراد هذه القبائل، في ظل غياب العقوبات الرادعة لعدم تكرار هذه الاشتباكات. ومع وجود كافة هذه العوامل جنباً إلى جنب، فإن ذلك قد يؤدي في المرات القادمة إلى اتساع النطاق الجغرافي لهذه الاشتباكات ومن ثم تحوّلها إلى حرب أهلية طاحنة، وهو ما قد يؤدي إلى التدخل الدولي المباشر لمنع حدوث ذلك، ويشير إلى ذلك تصريحات “فولكر بيريتس” رئيس بعثة “يونيتامس” في السودان، التي أشار فيها إلى القلق الأممي والدولي إزاء تجدد هذه الاشتباكات، ومطالبته قوات الأمن السودانية بضرورة وقفها، ومطالبة الزعماء المحليين بلعب دور الوساطة بين أطراف الصراع.

اشتباكات متجددة

خلاصة القول، ترجح المعطيات الراهنة السيناريو الأول بشأن استمرار تجدد الاشتباكات القبلية على النحو القائم، مع عدم استبعاد احتمالات أن تتحول إلى حروب أهلية داخل الولايات المضطربة، وخاصة مع استمرار الأوضاع السياسية غير المستقرة بسبب غياب التوافق السياسي بين المكونين العسكري والمدني اللازم لإخراج البلاد من أزمتها الحالية، وتحقيق الاستقرار السياسي، واستكمال بناء مؤسسات الدولة الدستورية، وتشكيل حكومة قادرة على إدارة شؤون البلاد وفقاً لما تدعو إليه الآلية الثلاثية وكافة الأطراف الدولية الفاعلة في الأزمة السياسية بالسودان.