لماذا فشلت الحكومات الليبية في تفكيك المليشيات المسلحة؟

ملف شائك:

لماذا فشلت الحكومات الليبية في تفكيك المليشيات المسلحة؟



تطرح التطورات التي تشهدها ليبيا تساؤلات عديدة حول المسارات المحتملة التي يمكن أن تتجه إليها أزمتها. وفي الواقع، فإن ثمة مؤشرات تدفع إلى ترجيح عدم تجاوز ليبيا هذه الأزمة، خلال المستقبل المنظور على الأقل. إلا أن هناك، في الوقت نفسه، مؤشرات أُخرى تُعبر عن الأمل في أن تنجح ليبيا في تحقيق ذلك. وهنا، فإن مثل هذا التناقض هو الإشكالية التي تنبني عليها الأزمة، التي تتفاعل ليس بسبب عوامل داخلية فقط، ولكن تتعقد خيوطها وتتشابك كنتيجة لأسباب أخرى تتعلق بالتدخل الخارجي. ورغم ذلك، تظل “المليشيات المسلحة وفوضى السلاح”، هي النقطة المركزية فيها.

مبادرة وطنية

رغم أنه لا توجد إحصائيات رسمية عن حجم انتشار السلاح في ليبيا؛ إلا أن الأمم المتحدة قد أحصت ما لا يقل عن 20 مليون قطعة سلاح، خلال السنوات القليلة الماضية. هذا الرقم الذي تأكّد من خلال المناقشات التي شهدتها ورشة العمل الفنية التي نظمتها بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا في مدينة طليطلة الإسبانية، بالتعاون مع السفارة الإسبانية في ليبيا، في 23 مايو الماضي، حول “طرائق الدعم الدولي لبرنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج الليبي”، كان من بين الأسباب التي دفعت خالد مازن وزير الداخلية في حكومة “الوحدة الوطنية” (حكومة عبد الحميد الدبيبة)، إلى الإعلان عن مبادرة وطنية لـ”تسريح وإعادة إدماج التشكيلات المسلحة”.

ووسط حضور مكثف من حكومة الوحدة الوطنية، والبعثة الأممية إلى ليبيا، بالإضافة إلى أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة “5+5″؛ تطرق مازن إلى جهود وزارته في ضم “القوى المساندة” في مؤسسات الدولة، وتوضيح رؤية وزارة الداخلية في تبني “مشروع وطني متكامل بمساعدة الشركاء الدوليين، ووضع الحلول المناسبة لتنفيذها”.

أما علي العابد، وزير العمل والتأهيل، فقد استعرض ملامح المبادرة التي أطلقتها وزارته، في 23 أكتوبر الماضي، تحت شعار “المشروع الوطني للتأهيل وإعادة الإدماج”؛ مؤكداً أن هذه المبادرة “ستوفر التأهيل والإدماج في سوق العمل”.

وعبر مناقشات ورشة العمل الفنية هذه التي كانت تستهدف التركيز على دور الشركاء الدوليين في مساعدة ليبيا على دمج واستيعاب المليشيات المسلحة، داخل مؤسسات الدولة وفي سوق العمل، تم البحث في تفاصيل الخطة الخاصة بـ”تفكيك المليشيات وتسريح عناصرها”، تحت إشراف دولي.

ثلاثة أقسام

وفي الوقت الذي أكدت فيه مشاورات طليطلة على ضرورة حل التشكيلات المسلحة بالمنطقة الغربية الليبية، من حيث إنها تعرقل عمل الحكومات، بما يمنع الاستقرار وأداء المؤسسات لمهامها؛ إلا أن هذه المشاورات، في الوقت نفسه، جاءت لتحمل كيفية تنفيذ الخطة، في هذا الشأن، عبر تقسيم المنخرطين في المليشيات المسلحة إلى ثلاثة أقسام:

الأول، يشمل المجموعات المنظمة والمنضبطة، وسيجري دمج عناصرها مباشرة بالقوات الأمنية الرسمية. والثاني، يضم المجموعات التي لا تحمل أفكاراً متطرفة، والتي سيخضع أفرادها لدورات تأهيلية قبل أن يتم دمجهم إلى جانب مجموعات القسم الأول، سواء في مؤسسات الدولة أو في سوق العمل. والثالث، يشمل المجموعات التي مارست نشاطات إرهابية أو إجرامية، وسوف يصنف أفرادها كمجموعات خارجة عن القانون، ويتم ملاحقتهم وفقاً لذلك.

رغم ذلك، أو بالرغم من المبادرات الوطنية لتفكيك المليشيات المسلحة، وملامح الخطة الدولية في هذا الخصوص؛ إلا أن التساؤل الذي يطرح نفسه يدور حول الإمكانية، بمعنى: هل تستطيع حكومة الدبيبة، التي تمت إقالتها من جانب البرلمان الليبي، أو حكومة فتحي باشاغا، التي لم تتمكن من دخول طرابلس (العاصمة) لممارسة مهامها، أن تنجح في تنفيذ المبادرة؟.

هذا التساؤل يكتسب أهمية بملاحظة أن عدد المليشيات “المجموعات المسلحة التي تعمل خارج إطار القانون” في المنطقة الغربية، وتحديداً في طرابلس ومصراتة، يصل إلى 50 مليشيا، ويتراوح عدد أفراداها ما بين 120 إلى 200 ألف مقاتل. وهنا، يكفي الإشارة إلى تقرير خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا، الذي نُشِر منذ أكثر من عام، في مارس 2021، والذي أكد على أن المليشيات المسلحة، خلال ولاية حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، اكتسبت شرعية غير مستحقة، وحصلت على مناصب حكومية نافذة.

وأشار التقرير، الذي ورد في 555 صفحة، إلى بعض هذه المليشيات، مثل: كتيبة النواصي، والأمن المركزي، وعبد الغني الككلي الشهير بـ”غنيوة” الذي يقود جهاز ما يسمى “دعم الاستقرار”، وكذلك قوة “الردع الخاصة” بقيادة عبد الرؤوف كارة؛ مؤكداً على أن نفاذ هذه المليشيات المسلحة داخل مؤسسات الدولة لا يزال مستمراً حتى بعد رحيل حكومة السراج.

تعثر حكومي

هكذا، تُمثل المليشيات المسلحة التحدي الرئيسي أمام أية محاولة لإرساء الاستقرار، والانتقال نحو الخروج الآمن من الأزمة التي تعصف بهذا البلد على امتداد السنوات الماضية؛ حيث اعتادت تلك المليشيات استخدام السلاح كورقة ضغط، للحصول على امتيازات ومبالغ مالية طائلة، كما أن لها شبكات للمصالح في مؤسسات الدولة، وتلجأ إلى القوة للحصول عليها، وتتصارع على هذه الامتيازات.

والأهمّ أن الحكومة المنتهية ولايتها لم تقم بدورها المنوط بها في تدعيم المؤسسات الرسمية في البلاد، ومحاولة استعادتها وهيكلتها، كما كان يُفترض بها؛ ولكن -على العكس- قامت بتقوية المليشيات، من خلال دعمها وتقويتها، والاستقواء بها. وما الاشتباكات التي دارت بين أنصار الدبيبة، وداعمي باشاغا، عندما حاول الأخير دخول العاصمة طرابلس لممارسة حكومته مهامها، التي حصلت على تكليف من البرلمان، إلا مجرد مثال.

لقد فشلت حكومة الدبيبة في أهم الملفات التي كانت ملقاة على عاتقها، وهو ملف تفكيك المليشيات المسلحة وإعادة دمجها في المؤسسات الرسمية للدولة. ورغم المحاولة من جانبها في الإعلان عن “المبادرة الوطنية” لتفكيك المليشيات وتسريح أفرادها، ودمجهم في مؤسسات الدولة، وفي سوق العمل؛ إلا أن نسبة نجاح هذه المبادرة ضئيلة للغاية، بل تكاد أن تكون معدومة.

إذ يكفي ملاحظة الصراعات حتى بين المليشيات الموالية للدبيبة نفسه، التي يستقوي بها في إصراره على عدم تسليم السلطة إلى حكومة باشاغا؛ وهى الصراعات التي امتدت حتى مدينة الزاوية، حيث شهدت المدينة، في أوائل مايو الماضي، اشتباكات حادة بسبب الخلاف حول إعادة التموضع والتمركز، ونية كل منها السيطرة على مواقع بعينها.

لقد فشلت هذه الحكومة فشلاً ذريعاً، ليس فقط في تفكيك المليشيات، ولكن -وهذا هو الأهم- في إنجاز الاستحقاق الانتخابي الذي كان مقرراً في ديسمبر من العام الماضي، وهو ما يؤكد من جديد عدمَ إمكانية هذه الحكومة أو قدرتها على تفكيك المليشيات المسلحة، وتسريح عناصرها، كما طرحت في مبادرتها الوطنية.

صعوبات متعددة

خلاصة القول، إن المليشيات المسلحة لا تزال -وسوف تظل- عائقاً كبيراً أمام الانتقال إلى العبور الآمن للدولة الليبية نحو الاستقرار، والسيادة على الموارد التي تتمتع بها ليبيا؛ حيث إن الدبيبة ظل في موقعه فترة كافية من أجل أن يجد حلولاً ناجزة للملفات الشائكة في الأزمة الليبية، وعلى رأسها تفكيك المليشيات المسلحة، ولكنه لم يوفق في ذلك.

هنا، يتبدى عدد من الصعوبات في نجاح عملية تفكيك المليشيات المسلحة، من أهمها:

1- عدم تسليم السلطة للحكومة المكلفة من البرلمان؛ فبدلاً من أن يلتزم الدبيبة بتكليف البرلمان حكومةً جديدةً (حكومة باشاغا) في فبراير الماضي؛ فإنه تحدى قرار مجلس النواب، وتحصن بالمليشيات في العاصمة طرابلس، في إصرار على عدم تسليم السلطة إلا بعد إجراء الانتخابات.

2- تقاطع مصالح وحسابات القوى الخارجية؛ إذ إن نزع السلاح وتفكيك المليشيات يحتاجان إلى قرار واضح ومباشر من مجلس الأمن الدولي في هذا الشأن، وإقرار مباشر بتشكيل بعثة دولية أمنية تتولى تنفيذ هذا الأمر. ورغم أن الأمم المتحدة هى وحدها من يمتلك إدارة حفظ السلام، وهى الجهة الوحيدة في العالم التي تمتلك التوصيف الوظيفي والمسئولية القانونية، والخبرات والإمكانيات البشرية والمادية، لتنفيذ عملية نزع سلاح المليشيات، وتفكيكها وتسريح أفرادها، إلا أن الأزمة الليبية دخلت فعلياً على خطوط التماس لاستراتيجيات الدول الكبرى الخاصة بهذه المنطقة من العالم، لذا تبدو إمكانية استصدار قرار من مجلس الأمن في غاية الصعوبة.

3- فشل خريطة الطريق في إنهاء وضعية الانقسام؛ فهذه الخريطة التي جاء بناءً عليها عبد الحميد الدبيبة إلى رأس حكومة الوحدة الوطنية، أصبحت غير مطروحة تماماً، بعد إقالة البرلمان لحكومته، وإخفاق محاولة باشاغا في دخول طرابلس، لممارسة مهامه كرئيس للحكومة المكلفة من قبل البرلمان.

4- رفض المليشيات لجهود نزع أسلحتها، وهو موقف متوقع من جانبها، باعتبار أن هذه المليشيات ترى أن استمرار الصراع والأزمة دون الوصول إلى تسوية سياسية هو الآلية المثلى للحفاظ على المكتسبات التي حصلت عليها منذ أن بدأت في توسيع نطاق نفوذها على الساحة الليبية.

صراع مفتوح

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن المأزق السياسي الذي تتعرض له الساحة الليبية ربما يدفع إلى إغراق البلاد مرة أخرى في صراع مفتوح بين الشرق والغرب الليبيين، في ظل التقدم البسيط الذي تحرزه المحاولات الدبلوماسية المتجددة. غير أن هذا الاحتمال قد لا يتوافق مع مصالح وحسابات الداعمين الأجانب للأطراف الليبية، الذين قد تنعدم لديهم الرغبة في تحوله إلى واقع، على الأقل في المدى المنظور.