انعكاسات أزمة التموضع الفرنسي في الساحل الإفريقي على مكافحة الإرهاب

معضلة مالي:

انعكاسات أزمة التموضع الفرنسي في الساحل الإفريقي على مكافحة الإرهاب



تتصاعد حدة التوتر في منطقة الساحل الإفريقي، على المستويين السياسي والأمني، على حدٍ سواء، لا سيما بعد انسحاب مالي من مجموعة دول الساحل “G5“، واستعداد فرنسا لنقل قواتها إلى النيجر بعد إلغاء السلطة الانتقالية في مالي الاتفاقيات الدفاعية من جانب واحد. ويمكن تحديد أبعاد المشهد المعقد في الساحل في ضوء التصعيد الكبير بين فرنسا والسلطة الانتقالية في مالي، إضافة إلى رفض قطاعات شعبية في بعض دول الساحل، مثل النيجر وبوركينا فاسو، للوجود الفرنسي في المنطقة، مع سعى روسيا لتعزيز نفوذها في المنطقة عبر الوجود العسكري في مالي من خلال مدربين روس ومجموعة “فاغنر” وتقديم أسلحة إلى الأخيرة، وتزايد دعم أطراف إقليمية للوجود الروسي. وتفرض أزمة الوجود العسكري الفرنسي في مالي ثم انتقاله إلى النيجر تداعيات عديدة، يتمثل أبرزها في تعدد آليات مكافحة الإرهاب بين دول المنطقة، وفقدان فاعلية الضربات الجوية الفرنسية ضد التنظيمات الإرهابية، وتراجع التنسيق بين دول الجوار بالمنطقة في ملف مكافحة الإرهاب، وارتدادات الأزمة بين فرنسا ومالي على دول أخرى، خاصة أن باريس تبنت موقفاً رافضاً للانقلاب في بوركينا فاسو، إضافة إلى رفض قطاعات شعبية في تشاد للوجود العسكري الفرنسي هناك.

تواجه فرنسا أزمة في استمرار الانخراط في مواجهة الإرهاب في منطقة الساحل خلال الفترة الحالية، على نحو دفعها إلى محاولة إعادة التموضع ونشر قواتها في دول أخرى بالمنطقة، وتحديداً في النيجر، بعد موافقة أغلبية كبيرة من البرلمان على استضافة القوات الفرنسية بعد الانسحاب من مالي، بناءً على الخلافات التي اندلعت مع السلطة الانتقالية، وهو ما يمكن أن يؤثر على الترتيبات الأمنية التي يجري العمل على صياغتها في تلك المنطقة.

أبعاد متعددة

يتجه المشهدان السياسي والأمني في منطقة الساحل نحو مزيد من التعقيد خلال الفترة المقبلة، وهو ما يؤثر على الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة. ويمكن تحديد أبعاد تعقيدات المشهد على النحو التالي:

1- انسحاب مالي من مجموعة “G5”: أعلنت السلطة الانتقالية في مالي، في 15 مايو الجاري، الانسحاب من مجموعة “G5″، وأجهزتها المختلفة ومن بينها القوات المشتركة للمجموعة، احتجاجاً على رفض توليها رئاسة هذه المنظمة الإقليمية. وعلى الرغم من محدودية فاعلية القوات المشتركة للمجموعة في تحجيم النشاط الإرهابي في منطقة الساحل، إلا أن الخطوة المفاجئة لمالي تزيد من تعقيدات المشهد الأمني، الذي يتفاقم بشدة، بعدما شهد العام الماضي زيادة ملحوظة في نشاط العنف في تلك المنطقة، فخلال عام 2021 سجلت أحداث العنف المبلغ عنها في منطقة الساحل 2005 حدث مقارنة بـ1180 حدث عام 2020، وفقاً لإحصائيات مشروع بيانات النزاعات المسلحة “ACLED”، في حين أن 58% من إجمالي تلك الأحداث وقعت في بوركينا فاسو، وبالنظر إلى مؤشر الإرهاب العالمي فإن ثلاث دول بمجموعة “G5” من أصل خمسة، كانت ضمن أكثر عشر دول تأثراً بالإرهاب خلال عام 2021، كما يوضح المخطط التالي:

2- تصاعد حدة الخلافات بين باريس وباماكو: اتسع نطاق الخلافات بين فرنسا والسلطة الانتقالية في مالي بصورة لافتة، ففي 23 أبريل الفائت، أعلنت الأخيرة اكتشاف مقبرة جماعية قرب قاعدة فرنسية، وسط اتهامات لفرنسا بارتكاب جرائم ضد المدنيين، وفي أحدث مراحل التصعيد، أعلنت السلطة الانتقالية إلغاء الاتفاقيات الدفاعية بين الطرفين، والتي يمكن اعتبارها رد فعل على تباطؤ فرنسا في سحب قواتها، إذ أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعلن، في 18 فبراير الماضي، أن سحب القوات سيكون في مدة بين أربعة إلى ستة أشهر، في حين تشير بعض التقديرات الغربية إلى أن الفترة المحددة من قبل فرنسا ربما تهدف إلى عدم التعجل بسحب القوات، لسببين: الأول، إمكانية توجيه هذه القوات لدولة إفريقية مجاورة مثل النيجر بدلاً من التوجه إلى فرنسا. والثاني، عدم استبعاد احتمال إعادة السلطة الانتقالية في مالي تقييم الموقف واحتواء التوتر.

3- رفض قطاعات شعبية بدول الساحل للوجود الفرنسي: لا تنحصر أزمات فرنسا في منطقة الساحل مع الدول والحكومات وإنما تمتد إلى الشعوب، وهو ما يبدو جلياً في رفض قطاعات شعبية في بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد للوجود العسكري الفرنسي، إذ تشير تقارير إعلامية إلى مظاهرات رافضة للوجود العسكري الفرنسي. فعلى سبيل المثال، جرى تنظيم احتجاجات وسط العاصمة المالية باماكو بعد اكتشاف مقبرة جماعية قرب قاعدة فرنسية في البلاد، وفي بوركينا فاسو والنيجر، سبق أن اعترض محتجون طريق قافلة عسكرية فرنسية، في 27 نوفمبر الماضي. وهنا فإن وجود رفض شعبي للوجود الفرنسي العسكري في منطقة الساحل يزيد من تعقيدات المشهد بالنسبة لفرنسا، إذ أن أحد المقومات المهمة في مكافحة الإرهاب، يتمثل في التأييد الشعبي.

4- ترسيخ نفوذ موسكو في منطقة الساحل: تسعى روسيا إلى ترسيخ وجودها في منطقة الساحل، في إطار من التنافس الدولي على النفوذ في تلك المنطقة، وتحديداً في مالي، بعد تعزيز العلاقات مع السلطة الانتقالية، إذ لم تحل العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا دون تعزيز اهتمام موسكو بمصالحها في بعض المناطق، وبالأخص في الساحل الإفريقي، خاصة وأن التقارب مع السلطة الانتقالية لا يزال يحتاج إلى تدعيم، حيث أرسلت روسيا مروحيات مقاتلة للجيش المالي ومعدات عسكرية أخرى خلال شهر مارس الماضي، كما قدمت الدعم السياسي للسلطة الانتقالية في الشهرين الماضيين، فيما طالبت روسيا بعقد اجتماع لمجلس الأمن مطلع الشهر الجاري، بعد إلغاء مالي الاتفاقيات الدفاعية مع فرنسا.

5- دعم بعض الأطراف الإقليمية للدور الروسي: ربما تحاول روسيا الحصول على دعم إقليمي من دول الجوار لمالي، في الانخراط المتزايد في منطقة الساحل. وسيكون الرهان في هذا الصدد على الجزائر بشكل أساسي، خاصة في ظل العلاقات بين الدولتين، على المستويين السياسي والاقتصادي، ففي 10 مايو الجاري، قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بزيارة الجزائر، والتقى نظيره الجزائري رمطان لعمامرة. وهنا يمكن الإشارة إلى محاولات فرنسا التقارب مع دول بالمنطقة لموازنة التحركات الروسية على غرار موريتانيا. 

حدود التأثير

أمام تصاعد حدة العنف والإرهاب في منطقة الساحل خلال العام الماضي، وتزايد التوقعات باستمرار وتيرة العنف في العام الجاري، خاصة مع اتجاه تنظيم “داعش” إلى إجراء تغييرات هيكلية داخل أفرعه في إفريقيا، بالإعلان عن “ولاية الساحل” كفرع منفصل عن “ولاية غرب إفريقيا”، بما يشير إلى الرغبة في التركيز على العمليات في نطاق دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وفي ضوء تعقيدات المشهد الحالي، فإن ثمة بعض التأثيرات التي يمكن أن تفرضها أزمة الوجود العسكري الفرنسي في مالي وبالتبعية في منطقة الساحل، يتمثل أبرزها في:

1- تعدد آليات ووسائل مكافحة الإرهاب: مع انخراط روسيا في الصراع على النفوذ في منطقة الساحل، عبر توظيف ملف الإرهاب، والدفع بمدربين روس لتأهيل القوات في مالي، إضافة إلى الاتفاق مع السلطة الانتقالية على نشر قوات “فاغنر” كبديل عن الوجود العسكري الفرنسي، ستكون منطقة الساحل أمام تعدد الرؤى والوسائل في مكافحة الإرهاب، في ضوء اختلاف آليات واستراتيجيات المكافحة بين القوات الفرنسية التي ستنتقل إلى النيجر من ناحية، ومجموعة “فاغنر” الروسية من ناحية أخرى.

2- فقدان فاعلية سلاح الضربات الجوية: على الرغم من أهمية بناء مقاربة شاملة لمكافحة الإرهاب، إلا أن المقاربة الأمنية العسكرية تظل تحتل أولوية بالنسبة لدول منطقة الساحل، وبالتالي فإن الانسحاب الفرنسي من مالي قد يُفقد مالي فاعلية الضربات الجوية التي كانت تقوم بها القوات الفرنسية لمواجهة الإرهاب سواء باستهداف تجمعات وتمركزات أو استهداف قيادات نافذة في التنظيمات الإرهابية. ومع أن مالي تسلمت مروحيات قتالية من روسيا قبل شهرين، إلا أن ترجيح الفاعلية يصب في صالح القوات الفرنسية، وبالتالي فإن التنظيمات الإرهابية قد تستفيد من تراجع الضربات الجوية لزيادة النشاط.

3- تراجع التنسيق بين دول الساحل: في ظل الخلاف الشديد بين فرنسا والسلطة الانتقالية في مالي، وموافقة البرلمان في النيجر على استضافة القوات الفرنسية من أجل دعم جهود الدولة في مكافحة الإرهاب، فقد تنشأ توترات بين الدولتين على المستوى السياسي وتنعكس على التنسيق الأمني على الحدود التي تشهد نشاطاً للتنظيمات الإرهابية، مع الأخذ في الاعتبار أن مالي انسحبت من مجموعة “G5″، بما قد يؤدي إلى تراجع عمليات التنسيق بين دول منطقة الساحل في الملف الأمني، بانتظار ما قد تسفر عنه الترتيبات الأمنية والعسكرية بعد انسحاب مالي.

4- ارتدادات الأزمة مع مالي على دول أخرى: يمكن أن تنسحب الأزمة بين فرنسا والسلطة الانتقالية في مالي إلى دول أخرى في منطقة الساحل، وغرب إفريقيا بشكل عام، بما يؤثر على العمليات الفرنسية في مكافحة الإرهاب مستقبلاً. فقد أبدت فرنسا، على سبيل المثال، رفضها للانقلاب العسكري في بوركينا فاسو، وقد يدفع ذلك السلطة الانتقالية في الأخيرة إلى رفض أى عمليات عسكرية فرنسية على أراضيها بما في ذلك تنفيذ ضربات جوية، كما أن ثمة رفضاً من قطاعات شعبية في تشاد للوجود العسكري الفرنسي، وهو ما يتضح من مظاهرة رافضة للتدخل العسكري الفرنسي في 14 مايو الجاري، سبقتها مظاهرة في 28 فبراير الماضي أيضاً.

اضطرابات متزايدة

أخيراً، يمكن القول إن منطقة الساحل مرشحة لمزيد من الاضطرابات السياسية الأمنية خلال الفترة المقبلة، في ضوء المشهد الذي يزداد تعقيداً، بعدما باتت المنطقة مرهونة بحالة صراع بين أطراف دولية على النفوذ والسيطرة، إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي بفعل الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو، وهي عوامل ربما تؤدي إلى مزيد من العنف والإرهاب في تلك المنطقة خلال المرحلة القادمة.