هل يمكن أن تستقر حكومة باشاغا في طرابلس؟

تحديات التمكين:

هل يمكن أن تستقر حكومة باشاغا في طرابلس؟



سوف تُسلط الأضواء في الأيام القليلة المقبلة على إمكانية وصول رئيس الوزراء الليبي المكلف من البرلمان فتحي باشاغا إلى طرابلس في ظل التحديات الأمنية التي تعترض تمكين الحكومة من ممارسة مهام عملها، وسط مخاوف من اندلاع اشتباكات أمنية في غرب البلاد، قد تفتح الباب سريعاً لانهيار وقف إطلاق النار الذي تم إقراره في أكتوبر 2020، حيث تشير التقديرات الأولية إلى أن المسألة لا تعود فقط إلى الانقسام وسط الكم الهائل من المليشيات المسلحة، بل إن إصرار حكومة الدبيبة على عدم تسليم السلطة ربما يقوض التقارب ما بين القيادة العامة ورئاسة أركان غرب ليبيا، وبالتبعية تقويض جهود اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) التي انقسمت انحيازاتها وفقاً لاختلاف المواقف السياسية داخل اللجنة ما بين المجموعة الممثلة للقيادة العامة والمجموعة الممثلة لرئاسة أركان الغرب التي لا تزال تعترف برئيس الحكومة المنتهية ولايته عبدالحميد الدبيبة كوزير للدفاع.

وعلى الرغم من أولوية البعد الأمني، كمدخل لتمكين الحكومة، إلا أن استقرارها بشكل عام في طرابلس يرتبط بخريطة الطريق التي أقرها البرلمان الليبي في 7 فبراير الفائت والمتعلقة باستحقاقات المرحلة الانتقالية بشكل عام للوصول إلى انتخابات عامة برلمانية ورئاسية في نهاية المطاف، وبالتالي فإن هناك العديد من التحديات الأخرى، بل معضلات ترتبط بهذا الجانب، في ظل الكثير من المؤشرات التي ظهرت إرهاصاتها في الفترة الأخيرة، وفي المقدمة منها الاعتراف الدولي بحكومة باشاغا، والخلاف ما بين البرلمان والبعثة الأممية، حيث بادرت المستشارة الخاصة للأمين العام ستيفاني وليامز إلى وضع مبادرة جديدة خاصة بالانتخابات رفضها البرلمان، وكذلك الترتيبات الاقتصادية الخاصة بالحكومة، خاصة وأن المصرف المركزي لا يزال يتعامل مع حكومة الدبيبة.

ويمكن تناول التحديات المتعددة التي تواجه حكومة باشاغا لبدء وترسيخ وجودها على النحو التالي:

الفصائل المسلحة

1- التعامل مع قوة المليشيات المسلحة: وهي الخطوة الأولى في مسار التمكين والاستقرار، فقد أعلن باشاغا في (8 مارس 2021) أنه يستعد لدخول طرابلس “بقوة القانون كحكومة شرعية، وليس بقانون القوة”، بمعنى أنه لا يريد الدخول في حرب مع القوى المليشياوية التي تساند “الدبيبة”، في حين أن الأخير اتخذ عدداً من الإجراءات لعرقلة وصول الحكومة، مثل إغلاق المجال الجوي في مطار معيتيقة، بالإضافة إلى دفع المليشيات للسيطرة على الطرق البرية الواصلة ما بين بنغازي وطرابلس، كما أكد على القوى العسكرية التابعة للمنطقة الغربية بشكل عام بعدم التحرك إلا بناء على أوامر تنفيذية منه. وفي المقابل، فإن باشاغا يراهن على عملية تفاوض مع المليشيات، ووفق مصادر محلية فإنه فتح خطوط اتصال مع مليشيات الزاوية ومصراتة، إلا أن هناك غموضاً حول نتائج هذه الاتصالات، ما بين مصادر ترجح أنه تمكن من احتواء مخاوف العديد من هذه المليشيات تجاهه، وفي المقابل تشير مصادر أخرى إلى أنها طلبت ضمانات بعدم التعرض لمصالحهم.

في السياق ذاته، تعكس المباحثات التي أجرتها البعثة الأممية والمبعوث والسفير الأمريكي ريتشارد نورلاند والبعثة البريطانية وبعثة الاتحاد الأوروبي في تونس مع فريق اللجنة المشتركة (5+5) من الجهة الغربية خلال الفترة الماضية، ضرورةَ عدم الانخراط في الصراع ما بين الطرفين، حتى في حال خروج الأمور عن السيطرة واندلاع حرب مليشيات، لكن أيضاً لا توجد ضمانات كافية بعدم انخراط رئاسة الأركان، فقد عقد “الدبيبة” اجتماعاً مع محمد الحداد رئيس أركان غرب ليبيا عقب عودة المجموعة من تونس، عكست من جانب آخر مأزق رئاسة الأركان، خاصة وأن الحداد لا يضمن موقف صلاح المنقوش (وزير الدفاع السابق في عهد حكومة الوفاق) ورئيس أركان القوة الساحلية في المنطقة الغربية حالياً والموالي للدبيبة بشكل مطلق حتى الآن، بالإضافة إلى عدم ولاء بعض الفصائل المسلحة التابعة لرئاسة الأركان، من حيث ولاء بعضها لقادة الأركان، بالإضافة إلى اللواء أسامة الجويلي الذى عينه الدبيبة في ديسمبر الماضي رئيساً لهيئة الاستخبارات العسكرية، ولديه نفوذ واسع في المنطقة الغربية التي كان يرأسها، فضلاً عن علاقاته الواسعة بالمليشيات والفصائل المسلحة.

الموقف الدولي

2- الحصول على الاعتراف الدولي: دولياً اعترفت روسيا بحكومة باشاغا وهو ما كان مساراً للجدل بينها وبين حكومة الدبيبة في إطار الأزمة الأوكرانية، ولكن حكومة الدبيبة لا تراهن أيضاً على روسيا التي لا تعتبر أن لديها نفوذاً قوياً على الساحة في المنطقة الغربية، كما اعترفت مصر والسعودية بالحكومة من منطلق تأييد خريطة الطريق التي وضعها البرلمان، وهي نقطة دعم لصالح باشاغا، لكن القوى الدولية الرئيسية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي لديها وجهة نظر مختلفة، فلديهم اتصالات ويعقدون لقاءات مع كلا الطرفين، لكن بدون تأييد سياسي لأي منهما، بل على العكس يتجه بعض هذه الأطراف للوساطة بين الطرفين لاحتواء الأزمة التي قد تنجم عن وجود حكومتين.

وقد أكدت على هذا السياق السفيرة البريطانية لدى ليبيا في لقاء خاص معها، حيث أشارت إلى أن القوى الغربية تتجاوز هذه المسألة وتركز على العملية السياسية وإجراء الانتخابات في أسرع وقت، بناء على تقديرات ترى أن خريطة الطريق البرلمانية ليست أكثر من محاولة للتمديد للسلطات القائمة في ليبيا. وعلى الجانب الآخر، لا يمكن للدبيبة مع مجلس الدولة وضع خريطة طريق موازية بدون البرلمان، وبالتالي أصبح هناك انقسام، ومن هنا جاءت مبادرة ستيفاني التي دعمت مقترح تشكيل لجنة ما بين مجلسي النواب والدولة لإنهاء الخلاف ووضع قاعدة دستورية (في شكل إعلان دستوري) يتم الانتقال منها إلى الانتخابات مباشرة. وعلى الجانب الآخر، طرح مصدر من الدائرة المقربة من الدبيبة رؤية الأخير لموقف ستيفاني والقوى الغربية، وأنهم بالفعل يسعون إلى “سحب البساط” من الجميع، وبالتالي لن يكون هناك اعتراف، بل على العكس من ذلك قد تتطور الأمور إلى ما هو أسوأ من ذلك، وهو ما يتفق مع حديث السفيرة البريطانية لدى ليبيا.

ازدواج نيابي

3- انقسام المؤسسة النيابية بين جناحين: شهد البرلمان انقساماً كان متوقعاً في ظل إعلان 50 برلمانياً من المؤيدين للدبيبة تشكيل تكتل معارض لرئيس البرلمان عقيلة صالح ورافض لتشكيل حكومة باشاغا. وعلى الجانب الآخر، عارض فريقٌ موازٍ من المجلس الأعلى للدولة موالٍ لباشاغا موقف رئيس الأعلى للدولة المعارض لتشكيل حكومة الدبيبة، وهي مجموعة (المغرب) التي كانت تقود مسار المناصب السيادية، ولديها مصالح مشتركة مع كلٍّ من صالح وباشاغا، وتتوقع مصادر في طرابلس أن المجموعة البرلمانية هي الأكثر تأثيراً في المشهد، على اعتبار أنها تؤكد من جهة على الطعن في الإجراءات التي قام بها البرلمان، وأن حكومة باشاغا لم تحظَ بالأغلبية وفقاً لما أعلنه البرلمان. كما أن هذه المجموعة لديها علاقات وطيدة مع البعثات الدولية والبعثة الأممية، يضاف إلى ذلك أنها تعرضت لسحب امتيازاتها الخاصة بقرار من رئيس البرلمان، وبالتالي هناك عداء شخصي بخلاف موقفها السياسي.

ومن المحتمل في ضوء انقسام هذه المعسكرات تفسخ الأجسام التشريعية، سواء البرلمان باعتباره الجهة الرئيسية، أو الأعلى للدولة كجهة استشارية يتعين موافقتها على كافة الإجراءات الانتقالية وفقاً لاتفاق الصخيرات 2016 ساري المفعول من هذه الزاوية، وبالتالي يصعب تمرير المشروعات أو افتقارها للثقة والمصداقية، مما سيعرقل من إجراءات خريطة الطريق، وهي خطوة وإن كانت تقلل من الثقة في حكومة باشاغا، لكنها -في الوقت ذاته- قد تكون فرصة لدى هذه الحكومة للبقاء فترة أطول مما هو متصور بحجة تعثر الإجراءات التي يجب اتباعها في المسار الانتقالي.واللافت للنظر أيضاً هو تغير موقف مجلس الدولة الذي عاد مجدداً إلى الاختلاف مع البرلمان، وفي هذا الإطار تغير موقف الدبيبة من الأعلى للدولة، حيث جرت عدة لقاءات ما بين الدبيبة والمشري، وبالتالي أصبح هناك تحالف ما بين باشاغا والبرلمان، مقابل معسكر مجلس الدولة مع الدبيبة.

الدورة الاقتصادية

4- العلاقة مع المؤسسات الاقتصادية الرئيسية: وهو تحدٍّ مركب بالنظر إلى أن الدورة الاقتصادية تتوقف على مؤسستين، هما: المصرف المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط،وكلاهما معارض لصالح الذي يعتبر مركز الحركة السياسية في ليبيا في المرحلة الحالية، لكن لم يحسم أي منهما أمره تجاه العلاقة مع كل من الدبيبة وباشاغا، وعلى الأرجح فإن كلا الطرفين يتذرع بعدم التورط في الأزمة السياسية، وأنهما يديران مؤسسات مستقلة، لكن في واقع الأمر فإن علاقات الطرفين بالقوى الدولية ستشمل بوصلة الحركة لكلا الطرفين في المرحلة المقبلة، وعلى الأغلب فإن القوى الدولية تترقب ما ستسفر عنه عملية دخول باشاغا إلى طرابلس، وما إذا كان بإمكانه الإطاحة بالدبيبة في نهاية المطاف من عدمه، وبالتالي حتى تحسم هذه النقطة فإن حكومة الدبيبة ستظل هي الطرف الأرجح لدى الطرفين.

وهناك دلالات عديدة في هذا السياق، لكن من الأهمية بمكان التوقف عند محطتين هامتين، الأولى هي محطة إغلاق النفط من جانب قبائل الطوارق خلال الأيام الماضية، وقد تمكنت حكومة الدبيبة في الأخير من إنهاء الأزمة، وبالتالي حققت أكثر من هدف، منها أنها ظهرت كطرف متحكم في النفط، خاصة وأن أسامة الجويلي هو الذي توسط لدى القبائل نيابة عن الدبيبة، ثم استقدم المجلس الأعلى للطوارق إلى طرابلس وعقد لقاء مع الدبيبة انتهى إلى وعدهم بحل مشكلة أوراقهم الثبوتية التي كانت المطلب الرئيسي وراء عملية إغلاق حقلي الشرارة والفيل، وبالتالي حقق مكسباً سياسياً. أما المحطة الثانية فهي الزيارة التي قام بها “الصِّدِّيق الكبير” -رئيس المصرف المركزي- إلى واشنطن خلال الأسبوع الماضي، والتي كان عنوانها إتمام عملية توحيد المصرف، لكن في الوقت ذاته شملت الزيارة –وفق مصادر– الارتباط مع البنك الفيدرالي الأمريكي، وبالتالي فإن “الكبير” من الآن فصاعداً سيمتثل للقرار الأمريكي.

حياد الرئاسي

5- ضبابية موقف الرئاسي من الأزمة القائمة: يعكس خطاب المجلس الرئاسي بشكل مستمر أنه طرف محايد في الأزمة الحالية، وأنه يقف على مسافة واحدة من كافة الأطراف، ربما كونه غير مهدد بالتغيير حتى انتهاء الجدول الزمني للمرحلة الانتقالية (يونيو 2022)، لكنه في الوقت ذاته لا يزال يتفاعل مع حكومة الدبيبة كأمر واقع باعتبارها هي الحكومة المسيطرة على مقاليد الأمور، وفي الوقت عينه لم يؤيد الرئاسي حكومة باشاغا أو خريطة الطريق البرلمانية، بل على العكس من ذلك يتماهى مع الموقف الدولي بشأن الإسراع في الانتخابات.وبالتالي، يسعى إلى الاستمرار في الإمساك بالعصا من المنتصف. وفي واقع الأمر فإن الرئاسي لا يملك قوة التأثير، حيث أصبح دوره ثانوياً في إطار اتفاق جنيف الذي وضع مقاليد السلطة في يد الحكومة الانتقالية، لكن تظل لديه صلاحية قرار “إعلان الطوارئ”، وهي الخطوة التي قد يقدم عليها في حال اندلاع صراع مسلح بين الأطراف.

وفشل المجلس الرئاسي في القيام بوساطات بين الطرفين، لا سيما وأن تلك الوساطات كانت هاتفية وإعلامية أكثر من كونها محاولات جادة وفعلية لإنهاء الأزمة بين الدبيبة وباشاغا، بينما ينفتح البرلمان بشكل تصاعدي على القوى الدولية أيضاً، حيث يؤيد مبادرة ستيفاني، بينما لم يؤيد مبادرة كل من البرلمان أو الدبيبة بشأن الانتخابات، وربما سيبادر المجلس من تلقاء نفسه إلى التراجع خطوة للوراء ما بعد يونيو المقبل، حيث انتهاء الصلاحية الزمنية للمرحلة الانتقالية، لكن ذلك سيرتهن بقرار البعثة وما ستتطور إليه الأمور حينئذ.

عراقيل إضافية

خلاصة القول، ستحدد الفترة القليلة المقبلة إلى أين سيتجه المشهد الليبي، وليس فقط حكومة باشاغا. وعلى الرغم من الانشغال الدولي بالأزمة الأوكرانية حالياً، إلا أن هناك اهتماماً بالوضع الليبي للحيلولة دون الخروج عن السيطرة، لكن في الوقت ذاته فإن مواقف القوى الدولية رافضة لهيمنة رئيس البرلمان على الموقف السياسي، حتى وإن كان لدى البعض منها تفاؤل برئيس الحكومة المكلف فتحي باشاغا، لكن بقاء حكومة الدبيبة في المشهد يعرقل التضامن معه. وإجمالاً، في حال وصول باشاغا إلى طرابلس فمن المتصور أن طرابلس ستشهد أوضاعاً أمنية مضطربة، وفي حال حسم باشاغا فمن المؤكد أنه سيواجه عراقيل أخرى لن يكون بمقدوره تجاوزها، خاصة وأنه سبق وطلب من البعثة الأممية قبل ترشحه للحكومة تأمين مرحلة انتقالية له لمدة عامين وهو ما قوبل بالرفض، في حين أن دور القوى الدولية لم يعد يتمثل فقط في الاعتراف بالحكومة، وإنما أيضاً بالقرار الاقتصادي، وهو ما سيتحول إلى أولوية بمرور الوقت بسبب الأزمة الأوكرانية وموقع ليبيا على خريطة احتياجات الطاقة، وبالتالي سترفض تلك القوى التصعيد المسلح الذي قد ينعكس على تلك التداعيات، لكنها لا تضمن في الوقت ذاته السيطرة على المشهد الليبي، وبالتالي يتجه الأخير إلى المزيد من التأزم.