دلالات التصعيد العسكري الروسي في أوكرانيا

مناورة تكتيكية:

دلالات التصعيد العسكري الروسي في أوكرانيا



كشفت تقارير لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، نقلاً عن مصادر مطلعة، أواخر شهر أكتوبر الماضي، عن حشد عسكري روسي واسع النطاق بالقرب من الحدود الأوكرانية، ورغم أن موسكو أقدمت على تصعيد مماثل في شهر أبريل الماضي دون أن ينتهيَ الأمر إلى عمل عسكري ضد أوكرانيا، فإن التعزيزات الأخيرة تتضمن مزيداً من القوات العسكرية والأسلحة المتطورة؛ إذ تشير التقارير إلى أن نحو 50 كتيبة عسكرية تحتشد على طول الحدود الأوكرانية، بما يُعادل 5 فرق من القوات المقاتلة، بتعداد قوات برية يتراوح ما بين 100 – 175 ألف جندي وفقاً لتقديرات استخباراتية. وفي ضوء ذلك، حذَّرت مصادر عسكرية أوكرانية من أن التصعيد العسكري الروسي على حدودها يُنذر بغزوٍ وشيكٍ بنهاية شهر يناير المقبل.

وهو ما طرح العديد من التساؤلات بشأن مدى صحة التنبؤات المُثارة بشأن الغزو الروسي المُزمع، وفرص كل من الجانبيْن الروسي والأوكراني في أي مواجهة محتملة، وردود الفعل الأمريكية والغربية المتوقعة.

دلالات رئيسية

1- جهود دبلوماسية مكثَّفة لإخماد فتيل الأزمة: فخلال الأسبوع الأول من شهر نوفمبر الماضي، أرسل الرئيس “جو بايدن” مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “CIA” “بيل بيرنز” في مهمة إلى موسكو لإجراء مباحثات مع كبار مسؤولي الأمن في الكرملين، في محاولة لإيصال رسالة تحذير إلى موسكو مفادها أن “الولايات المتحدة تراقب حشدها العسكري بالقرب من حدود أوكرانيا عن كثب”. وفي 2 ديسمبر الجاري، التقى وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” نظيره الروسي “سيرجي لافروف”، خلال اجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) في استكهولم. ومن جانبه، حذر “بلينكن” من “عواقب وخيمة” في حال أقدمت روسيا على عمل عسكري ضد أوكرانيا. وفي محاولة لتهدئة التوترات، عقد الرئيس الأمريكي “جو بايدن” قمة افتراضية مع نظيره الروسي “فلاديمير بوتين” في 7 ديسمبر الجاري، وخلالها حذر “بايدن” من أن أي هجوم لروسيا على أوكرانيا ستكون له “عواقب وخيمة”، مضيفاً أن الولايات المتحدة ستوفر “قدرات دفاعية” للجيش الأوكراني.

2- دعم غربي واسع النطاق لأوكرانيا: فمنذ عام 2014 قدمت الولايات المتحدة نحو 2.5 مليار دولار من المساعدات الأمنية لأوكرانيا، بما في ذلك 400 مليون دولار في عام 2021 وحده، وشمل الدعم العسكري الأخير لها زوارق دورية للبحرية الأوكرانية، و80 ألف كيلوجرام من الذخيرة للقوات الأوكرانية. هذا وسعت الولايات المتحدة مؤخراً إلى التنسيق مع ألمانيا بشأن إغلاق خط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم 2” كجزء من إجراءات عقابية محتملة ضد موسكو في حال أقدمت الأخيرة على غزو الأراضي الأوكرانية. ووفقاً لتصريحات مستشار الأمن القومي الأمريكي “جاك سوليفان”، فإن الإدارة الأمريكية ستفرض “تدابير اقتصادية” واسعة النطاق ضد الكرملين في حال قيامه بعمل عسكري ضد أوكرانيا، كما ستقدم الدعم العسكري إلى كييف، وستعزز الدعم العسكري لحلفاء الناتو في دول البلطيق ورومانيا وبولندا. وعلى الصعيد الدبلوماسي، التقى وزير الخارجية الأمريكي نظيره الأوكراني في اجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا باستكهولم في مطلع ديسمبر الجاري، وشدد على التزام الولايات المتحدة الثابت بوحدة الأراضي الأوكرانية وسيادتها واستقلالها”. وفي بيان مشترك لوزراء خارجية مجموعة السبع “G7″، عقب اجتماعهم في ليفربول يوم 12 ديسمبر الجاري، أعربوا عن “إدانتهم للحشد العسكري الروسي بالقرب من الحدود الأوكرانية، داعين موسكو إلى وقف التصعيد، ومشددين على دعمهم لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها”.

توقيت دقيق

1- ظروف جيوسياسية مواتية: رغم أنه لا توجد صلة مباشرة بين التصعيد الروسي الراهن على الحدود الأوكرانية، وأزمة المهاجرين على الحدود البولندية البيلاروسية، لا سيَّما في ظل عدم وجود أدلة دامغة تثبت تورط الكرملين في الأزمة الأخيرة على الحدود البولندية، فإن تزامن الأزمتين معاً لا بد وأن يؤخَذ في عين الاعتبار، خصوصاً وأنه من المعهود في السياسة الخارجية للرئيس “بوتين” ميله لتوظيف مختلف المتغيرات الجيوسياسية لصالحه، بما في ذلك تطورات الأوضاع في الدول المجاورة.

2- ملف الطاقة.. ورقة بوتين الرابحة: بالتزامن مع ارتفاع أسعار الطاقة، تتزايد وطأة اعتماد شركاء الولايات المتحدة من الدول الأوروبية على إمدادات الغاز الروسية منخفضة التكلفة، ولا سيَّما مع حلول فصل الشتاء، وتناقص احتياطيات الغاز لدى أوروبا، مما يزيد من قدرة الرئيس الروسي “بوتين” على المناورة والتلاعب بإمدادات الطاقة إلى أوروبا. وفي ضوء حرص الدول الأوروبية على تأمين احتياجاتها من الطاقة، فمن المُرجَّح أن تصبح أكثر تردداً في اتخاذ موقف متشدد حيال موسكو فيما يتعلق بالتصعيد الراهن مع أوكرانيا، وأقل دعماً لفكرة فرض عقوبات صارمة على الكرملين.

3- ضعف أمريكي واضح المعالم: لا شك أن التصعيد الروسي الأخير إزاء أوكرانيا يأتي مدفوعاً بعدد من مؤشرات الضعف التي اختبرتها موسكو في السياسة الخارجية الأمريكية لإدارة الرئيس “بايدن”، وأبرزها: الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان، وقبول “بايدن” الاجتماع مع نظيره الروسي “بوتين” في قمة جنيف في شهر يونيو الماضي، وتخلي “بايدن” عن موقف أكثر تشدداً إزاء مشروع خط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم 2″، ولا سيَّما بعد التوصل إلى اتفاق بشأنه مع المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” في وقت سابق من هذا العام؛ حيث تعاني الولايات المتحدة من استقطاب سياسي داخلي حاد، لدرجة أن العديد من أعضاء الكونجرس قد لا يلتفون حول الرئيس “بايدن” حتى في ظل أزمة خارجية، فاتصالاً بالتطورات الراهنة على سبيـل المـثـال: لا يزال ترشيح “جوليان سميث” لمنصب الممثل الدائم للولايات المتحدة لدى حلف شمال الأطلسي يواجه عراقيل في الكونجرس، في ظل تأجيل ترشيحها عدة مرات من جانب السيناتور الجمهوري “تيد كروز”، وهو ما قد ينعكس سلباً على الجهود الأمريكية لبلورة رد فعل موحد مع شركاء الناتو في مواجهة التهديد الروسي لأوكرانيا.

محددات حاكمة

1- نظرية المهرب الخارجي: عادةً ما يلجأ القادة السياسيون إلى تفجير أزمة خارجية بهدف صرف انتباه الجماهير عن المشكلات الداخلية المتفاقمة، وحشد المزيد من الدعم الشعبي، ويمكن تفسير التصعيد الروسي الراهن على الحدود الأوكرانية في السياق ذاته؛ بالنظر إلى التحديات المتزايدة التي يواجهها نظام الرئيس “بوتين” في روسيا، ومنها: تزايد حالات الإصابة بفيروس (كوفيد-19)، وتباطؤ معدلات نمو الأجور، وارتفاع الأسعار، إضافة إلى تصاعد حدة المعارضة للنظام الروسي، وهو ما برز بوضوح في المسيرات الحاشدة التي نظمتها جماعات المعارضة المناهضة للرئيس “بوتين”، والتي اعتُبِرَت الأكبر منذ سنوات.

2- نسبية ميزان القوة العسكرية بين موسكو وكييف: رغم التحسُن الملحوظ الذي طرأ على المقدرات العسكرية الأوكرانية على مدار السنوات السبع المنقضية، بخلاف الحال إبان الحرب في دونباس عام 2014، حينما عانت كييف من ضعف بيِّن في تدريب قواتها العسكرية، ونقصٍ في المعدات العسكرية المتطورة لديها؛ فإنه لا يزال من الصعب التنبؤ بفرص جديدة مغايرة لأوكرانيا في أي مواجهة محتملة بينها وبين روسيا في غياب التدخل الخارجي؛ وذلك لسبب منطقي للغاية، ألا وهو نسبية ميزان القوة العسكرية، حيث استثمر الكرملين أيضاً بكثافة في تعزيز قدراته العسكرية خلال الفترة ذاتها، من خلال شراء المعدات العسكرية المتطورة، بما في ذلك شبكة دفاع جوي/ صاروخي متطورة، وعددٍ من المقاتلات النفاثة الأكثر تطوراً في العالم، ومجموعة من الطائرات الحديثة، فضلاً عن المركبات القتالية والدبابات.

3- الدبلوماسية.. حل أوحد صعب المنال: تدرك القوى الغربية أن السبيل الوحيد لردع التصعيد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية هو مفاقمة تكلفة أي مغامرة غير محسوبة للكرملين ضد كييف على غرار ما حدث في القرم وجورجيا، مع فتح آفاق للتهدئة عبر المسار الدبلوماسي، وهو النهج الذي يتبعه الغرب في الوقت الراهن ضد موسكو. ومع ذلك، فإنه من غير المتوقَّع أن يُقدِّم الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” تنازلات كبيرة تُسهم في دفع الجهود الدبلوماسية بشكل سريع، وهو ما تأكد بوضوح في المطالب غير الواقعية التي نشرها موقع وزارة الخارجية الروسية يوم 17 ديسمبر الجاري، وأبرزها على سبيل المثال ما يتعلق بمطالبة حلف شمال الأطلسي التخلي عن جميع أنشطته العسكرية ليس فقط في أوكرانيا، وإنما في أوروبا الشرقية ومنطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وهو مطلب من غير المُرجَّح أن تقبل به القوى الغربية.

سيناريوهان محتملان

إن القراءة المتعمقة للنهج المعقّد للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” تجعل من الصعب استشراف نواياه الحقيقية الكامنة وراء التصعيد الأخير على الحدود مع أوكرانيا، وما إذا كان ينتوي حقاً القيام بعمل عسكري ضد كييف من عدمه، بيد أنه ثمة سيناريوهين أكثر ترجيحاً في هذا الصدد، أولهما: أن يكون الحشد العسكري الراهن جزءاً من مناورة تكتيكية روسية للضغط على القوى الغربية، لتقليص دعمها إلى أوكرانيا، والانخراط في مناقشات جادة حول مستقبل الأمن الأوروبي، وسبل تنفيذ اتفاق مينسك للسلام بشأن الحرب في دونباس، ويدعم صحة هذا السيناريو التكلفة الباهظة التي يعلم الرئيس “بوتين” أن بلاده ستتكبدها في حال أقدمت على التصعيد الشامل ضد كييف، خصوصاً مع احتمالية طول أمد الصراع، في حال لم تتمكن موسكو من حسمه بشكل سريع نتيجة استمرار تدفق المساعدات العسكرية الغربية على أوكرانيا، مما قد يفاقم الخسائر في صفوف المدنيين، ومن ثمَّ تأليب الرأي العام في الشرق الأوكراني ضد الكرملين.ومع ذلك، لا يستبعد السيناريو الآخر إمكانية إقدام روسيا على عمل عسكري موسع ضد أوكرانيا، ورغم تضاؤل فرص تحقق هذا السيناريو، فإنه قد يحدث مدفوعاً بالمخاوف الروسية من مآلات الأوضاع في كييف، ليس فقط ما يتعلق بالشق الأمني المرتبط بالتعاون العسكري بينها وبين حلف شمال الأطلسي، والذي تراه موسكو يكاد يرقى إلى مستوى التكامل العسكري الفعلي مع الحلف، وإنما أيضاً لما يتصل ببُعد سياسي خفي يتعين أخذه في الاعتبار، ألا وهو التهديد الذي سيشكله وجود نظام ديمقراطي أوكراني ناجح على الحدود الروسية في حال تمكن الأوكرانيون بالفعل من تحقيق ذلك؛ كونه سيمثل تهديداً وجوديّاً لتطلعات الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لاستعادة مجد الإمبراطورية السوفيتية السابقة.