كيف يُسهم لقاء القاهرة بتحجيم ملف المرتزقة في ليبيا؟

حلحلة التعقيد:

كيف يُسهم لقاء القاهرة بتحجيم ملف المرتزقة في ليبيا؟



انطلق في القاهرة، خلال الفترة الماضية، اجتماعات للجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5)، وممثلين عن وزارات خارجية السودان وتشاد والنيجر، وبحضور رئيس البعثة الأممية للدعم لدى ليبيا “يان كوبيتش”، حيث أُجريت مباحثات أولية لوضع خطة للتعامل مع ملفات المرتزقة والفصائل المسلحة بتلك الدول والمنتشرة في الجنوب الليبي. ويأتي الاجتماع بناء على مشاورات أُجريت خلال اجتماع دول الجوار الليبي الذي انعقد بالجزائر في مطلع سبتمبر المنقضي، واستُكملت بطرابلس خلال مؤتمر “استقرار ليبيا” (22 أكتوبر)، وأكدت فيهما الدول الثلاث على رفضها وضع استراتيجية لإجلاء هذه المجموعات من ليبيا، أو محاولة إعادتهم إلى دولهم دون تنسيق وتفاهمات مسبقة. وبناء على ذلك تم الفصل بين ملفي المرتزقة والمقاتلين الأجانب الأفارقة ونظرائهم من غير الأفارقة كالسوريين والروس.

وأصدر “كوبيتش” بياناً بعد انتهاء اليوم الأول من مباحثات القاهرة، والذي شمل الجلسة الافتتاحية، ولقاء ممثلي دول الجوار الإفريقية الثلاث (السودان، وتشاد، والنيجر)، بالإضافة إلى لقائه وزير الخارجية المصري “سامح شكري”، وأشار فيه إلى أن “اجتماع القاهرة، والاجتماعات والمشاورات التي ستعقبه، ليست سوى الخطوات الأولى في طريق إعداد خطة تنفيذ ملموسة لانسحاب جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوات الأجنبية من ليبيا، وهو الأمر المهم أيضاً في ضوء الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة”. ويعكس البيان -وفقاً لهذا السياق- أن اجتماع القاهرة هو اجتماع أولي يهدف إلى وضع تصور لخريطة طريق للتعامل مع ملف المرتزقة والفصائل المسلحة من الدول الثلاث. كما أن تضمنه عبارة “في ضوء الانتخابات الليبية المقبلة” يُلمح إلى أنه ليس من الضروري أن يتم قبل الانتخابات التي ستتم بعد أقل من شهرين.

دوافع الفصل

تنطوي عملية الفصل بين ملفات المرتزقة والمقاتلين الأجانب الأفارقة، وغيرهم من المقاتلين الأجانب مثل السوريين الذين جلبتهم تركيا، ومجموعة “فاجنر” الروسية، على التمييز بين طبيعة هذه المجموعات، وهو ما يمكن الإشارة إليه على النحو التالي:

1- الانتشار الجهوي لمجموعات الأفارقة والمرتزقة والمقاتلين الأجانب: في إطار تبني مؤتمرات ليبيا (برلين 1،2 – استقرار ليبيا) إجلاء كافة المرتزقة والمقاتلين الأجانب من البلاد، تُظهر خريطة انتشار المرتزقة والمقاتلين الأجانب تموضع مجموعات المرتزقة السوريين في غرب ليبيا وفي الجفرة، وباتجاه الشرق تتواجد مجموعة “فاجنر” الروسية، بينما في الجنوب تتواجد مجموعات إفريقية من السودان وتشاد والنيجر. وبينما تم التوصل على هامش مؤتمر (برلين -2) إلى أن يتم سحب المرتزقة “الروس والأتراك” بشكل متزامن ومتدرج، فلم تتم معالجة وضع المجموعات الإفريقية التي تنتمي إلى حزام دول الجنوب الليبي، وبالتالي فإن فصل ملفّ هذه المجموعات هو إجراء تنظيمي، كونه ملفاً مختلفاً عن باقي الملفات الأخرى.

2- شبكات الظلّ لجماعات المصالح الاقتصادية: بينما يُنظر إلى أن مجموعة المقاتلين السوريين والروس يمكنهم التأثير على العملية الانتخابية، وإعادة المشهد مرة أخرى إلى مربع التصعيد المسلح؛ فإن هناك مشكلات من نوع آخر يتسبب فيها وجود المقاتلين الأفارقة في ليبيا، وهي نشاط هذه المجموعات في الجريمة المنظمة، كالهجرة غير الشرعية، وتهريب الأسلحة من وإلى دول الساحل الإفريقي، بالإضافة إلى تهريب المخدرات. وبدورها تسببت هذه المجموعات في خلق حالة من الفوضى الأمنية في الجنوب الليبي، هيأت البيئة بالتبعية لتنامي المجموعات الإرهابية من تنظيمي داعش والقاعدة كخزان خلفي للمجموعات الرئيسية لتلك التنظيمات في دول الساحل الإفريقي. وتمثل ليبيا بيئة مثالية لإنشاء معسكرات تدريب وتجنيد عناصر إرهابية تستفيد من حركة التهريب والتجارة غير المشروعة.

3- تباينات سياسية بين القوى الإقليمية والدولية ذات الصلة بالمرتزقة: تستغل تركيا ورقة المرتزقة والمقاتلين الذين تم جلبهم إلى ليبيا للقيام بمهام عسكرية لا تستطيع القيام بها بشكل رسمي، وتحمل كلفتها السياسية في الداخل التركي، كما تعزز من أوراق الضغط على القوى الدولية بهدف جني مكاسب خاصة، بالإضافة إلى عامل التوازن الداخلي في ليبيا بين قوى الشرق والغرب. بينما يبدو الوضع مختلفاً في حالة الأفارقة، فتلك القوى هي امتداد لمجموعات وافدة من دول الجوار، إما تمركزت في سياق معارضة السلطات بتلك الدول، أو لأجندات إثنية خاصة، بالإضافة إلى الارتزاق من حالة الفوضى الليبية، حيث تم تجنيد العديد منهم في معركة طرابلس.

إشكاليات ضاغطة

وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى عدة إشكاليات على جدول أعمال اللجنة العسكرية المشتركة، ومنها على سبيل المثال:

1- الامتدادات الإثنية للجماعات الإفريقية المسلحة العابرة للحدود: مشكلة المجموعات الإفريقية في الجنوب الليبي ليست مشكلة طارئة، وإنما هي أزمة أزلية تعود إلى عقود طويلة خلال فترة حكم العقيد “القذافي”، حيث إن أغلب هذه المجموعات لديها امتدادات إثنية بين ليبيا ودول الجوار الإفريقي، كالتبو مع تشاد والطوارق مع النيجر، وفشلت سياسات “القذافي” في الحد من تسلل هذه المجموعات إلى الداخل الليبي، ومحاولتها تعويم نفسها بالاندماج الإثني مع نظرائهم الليبيين، في ظل الفراغ الديمغرافي في الجنوب الليبي. فحاول “القذافي” تعزيز وضع العرب من قبائل “المقارحة” و”أولاد سليمان” في الجنوب، وأنشأ حواضر مثل سبها؛ لكن اندلاع الثورة ضده والإطاحة به كرّس لفتح الطريق أمام استقطاب المزيد من هذه المجموعات، وطغيان مكوناتها على المكون العربي، مما تسبب في خلل ديمغرافي هائل.

2- التداخلات القبلية للمجموعات الإفريقية الممتدة: بخلاف البُعد السياسي للعامل الإثني في ظل التوجهات الانفصالية لكل من “التبو” و”الطوارق”، هناك مجموعات أخرى من المتمردين والفصائل المسلحة من كل من السودان وتشاد، وهي معضلة أخرى، حيث إن هناك تداخلاً بين هذه المجموعات، ولا سيما المنتمين إلى قبيلة الزغاوة الممتدة بين تشاد والسودان، والتي ينتمي إليها قائد المجلس العسكري الانتقالي التشاديمحمد إدريس ديبي”، الذي يرفض عودة تلك المجموعات قبل إتمام عملية التسوية السياسية وإلقاء السلاح، خاصة أن هناك فصيلاً متهماً بقتل والده الرئيس التشادي الراحل “إدريس ديبي”، وهي المجموعة التي يقودها “محمد مهدي”، وشكلت هذه الفصائل ما يُسمى بالتحالف الرباعي في أبريل الماضي، وتتموضع بين الجنوب الليبي وبين هضبة “تبيستي”، وتشن عمليات عسكرية ضد المجلس الانتقالي في العاصمة أنجامينا.

أما الإشكالية الأخرى فتتعلق بالأبعاد السياسية في إقليم دارفور وامتداد مجموعات دارفورية من “الزغاوة” و”العرب”، والمحسوبين على مجموعات لا تزال تواصل مباحثاتها لإقرار اتفاق سلام دارفور. فبعضهم محسوب على حركة العدل والمساواة، وآخرون محسوبون على حركة ميني أركو مناو رئيس حركة جيش التحرير، ومجموعات عربية محسوبة على ما يُسمى مجلس الصحوة الثوري التابع لموسى هلال.

3- اقتصاديات التجارة غير المشروعة على الحدود الرخوة: أكد مصدر سوداني مشارك في المباحثات أن هناك أبعاداً اقتصادية تشكل تحدياً رئيسياً في ملف المجموعات السودانية، لا سيما من خارج الإطار التنظيمي للحركات المسلحة السودانية التي تسترزق من الحرب في ليبيا، وهي أن تلك المجموعات فرت من الوضع الاقتصادي المتردي في دارفور، ووجدت في ليبيا مصدراً للكسب، وبعضهم يعمل في عمليات التجارة غير المشروعة، ولا سيما عمليات التهريب، ولا يمكن إعادة هؤلاء إلى دارفور أو وقف الهجرة من دارفور دون تحسن الوضع الاقتصادي.

وبخلاف المجموعات السودانية، فإن كلاً من “التبو” و”الطوارق” منهمكون في عمليات التنقيب عن الذهب في جنوب ليبيا، حيث يُفيد تقرير خبراء الأمم المتحدة بأن تلك المجموعات نجحت في الثراء من تلك الثروة المجهولة في جنوب البلاد. وعلى الجانب الآخر، فإن عوائد التهريب التي تجنيها مليشيات النيجر أيضاً في تهريب السلاح حالياً الذي يمر عبر ليبيا، وخلق مجموعات مصالح مشتركة بين مجموعات الجريمة المنظمة والتنظيمات الإرهابية؛ تضاعف من صعوبات تخلي هذه المجموعات عن تلك المكاسب والعوائد التي تجنيها.

تصور أوّلي

ولمعالجة هذه المشكلات، تطرح اللجنة العسكرية تصوراً أولياً لا يزال في إطار المباحثات على طاولة القاهرة، ويتضمن ما يلي:

1- تشكيل فرق عمل بمساعدة خبراء الأمم المتحدة للتعامل مع كل حالة على حدة بالنظر إلى التباينات فيما بينها. وبالتالي البحث عن خطة للاستيعاب أو الاحتواء.

2- عودة العمل بسياسة التوثيق الليبي للهويات الوطنية، ومد عمل فرق المصالحة الوطنية إلى الجنوب، لرأب الصدع بين القبائل العربية (أولاد سليمان والمقارحة) من جهة وقبائل التبو من جهة أخرى، مع حل مشكلة الطوارق بالتفاهم بين كل من ليبيا والجزائر والنيجر ومالي.

3- المعالجة الاقتصادية للقبائل السودانية، بحيث يسهم اتفاق سلام دارفور في إعادة القوات المتمردة من جهة، وتحويل دارفور إلى عامل استقطاب اقتصادي للفارين من الفقر والاضطهاد من جهة أخرى، وتشكيل لجنة بين تشاد والسودان لحل قضية القبائل المشتركة مثل الزغاوة على مستوى ثنائي.

4- حلّ مشكلة أمن الحدود من داخل دول الحزام الجنوبي، بعد أن فشلت محاولة القيادة العامة بدعم فرنسي في مواجهة القوى المتمردة التشادية.

مشكلة هيكلية

في الأخير، يمكن القول إن مشكلة المرتزقة والفصائل المسلحة لدول حزام الجنوب الليبي تنعكس على استعادة الاستقرار في ليبيا، وأنها أصبحت مشكلة هيكلية متعددة الأبعاد، السياسية والاقتصادية والديمغرافية، كما يُنظر إليها على أنها عامل عدم استقرار لتلك الدول، وبالتالي تشكل أبعادها منظوراً مختلفاً عن قضية المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وترى الأمم المتحدة أن حل تلك القضايا مع دول الجوار الليبي في إطار الآلية التي تحمل هذا المضمون سيستغرق المزيد من الوقت، لكن يتعين عليها إطلاق هذا المسار كمبادرة لعدم تفاقم الأزمة، خاصة في ظل ضغوط من بعض الدول الأوروبية التي ترى أن أدوار ومصالح هذه المجموعات تنعكس أمنياً على أوروبا.

كما أن هشاشة الوضع الأمني في ليبيا، بالإضافة إلى التحديات السياسية، يصعب معه إلزام الأطراف بحلحلة هذه المعضلات قبيل إجراء الانتخابات الليبية، رغم احتمالات التأثير عليها، وعليه ستبقى واحدة من القضايا المرحلة إلى ما بعد الانتخابات. مع الوضع في الاعتبار أيضاً عدم استقرار الأوضاع السياسية في دول الجوار الليبي جنوباً، ولا سيما السودان وتشاد اللتين تمران بعملية انتقال سياسي لا تقل هشاشة بدورها عن وضع ليبيا الهش وغير المستقر حالياً، وبالتالي فإن عدم الاستقرار بتلك الدول سيُطيل من عمر هذه الأزمة ويزيدها تعقيداً.