حدود تأثير “الحرب النفسية” بين إسرائيل وإيران

ضغوط متبادلة:

حدود تأثير “الحرب النفسية” بين إسرائيل وإيران



أثار تصريح نشرته صحيفة “إسرائيل هايوم”، على هامش إجراء القوات الجوية مناورات ضخمة في السادس والعشرين من أكتوبر الجاري، يشير إلى دعوة الحكومة الإسرائيلية الأجهزةَ الأمنية لإعداد خطط لمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، وهو ما أثار العديد من التساؤلات حول مدى جدية التهديدات الإسرائيلية، وهل هي قابلة للتنفيذ بالفعل إذا ما توافرت الإرادة والقرار الإسرائيليان؟.

لأسباب عديدة يمكن القول بشكل حاسم إن هذه التهديدات ليست جدية، وإنها تخضع لما يمكن تسميته بالحرب النفسية المتبادلة بين إسرائيل وإيران منذ سنوات طويلة، حيث يجب التنويه إلى أن إيران بدورها استخدمت الحرب نفسها في مواجهة إسرائيل عبر التهديد بإبادتها إذا ما أقدمت على أي هجوم عليها.

مناعة الردع

تدرك إسرائيل أن المشروع النووي الإيراني، بعد الكشف عن الكثير من أسراره في السنوات التي تلت توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الست المعروفة، يتمتع ببنية معقدة ومتعددة المستويات، وموزع على مواقع شديدة الحراسة في أنحاء الجمهورية الإيرانية، وبالتالي فإن توجيه ضربة أو عدة ضربات له، قد لا تضمن تدميره بالكامل، وبالتالي سيصبح السؤال الإسرائيلي عن تكلفة الضربة، وبالأخص حجم ومدى الرد الإيراني على مثل هذا الهجوم، سؤالاً مزعجاً، ومن هنا ينفتح الطريق أمام الحرب النفسية، فإيران تزيد من إجراءاتها لحراسة مشروعها النووي، وتشعر بالخوف من وجود ثغرات لا يمكن سدها في هذه الإجراءات مما يضع صانع القرار الإيراني تحت ضغط نفسي مستمر، حيث يدرك أنه لا توجد إجراءات حماية آمنة بنسبة مائة في المائة.

في المقابل، تشعر إسرائيل بتخوف حقيقي من شن ضربات عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، حيث تعرف أنّ لدى إيران صواريخ بعيدة ومتوسطة المدى يمكن أن تطلقها ضد إسرائيل، كما يمكن لإيران أن تأمر “حزب الله” اللبناني الذي يمتلك ترسانة صواريخ ضخمة بفتح جبهة موازية مع إسرائيل ذات المساحة الجغرافية الصغيرة والتي يمكن تغطيتها بأكملها بضربة صاروخية كثيرة ومتنوعة المدى يمكن أن تُلحق دماراً شاملاً بالبنية التحتية وبالتجمعات السكانية الإسرائيلية على حدٍ سواء. ومن هنا فإن تهديد إيران برد مدمر في حالة وقوع هجوم إسرائيلي عليها هو ما تستخدمه إيران كأداة موازنة في الحرب النفسية الناشبة بين الجانبين.

تكرار التهديد

منذ عام 2007، صدرت عشرات التصريحات الإسرائيلية التي تهدد بتوجيه ضربة عسكرية للمشروع النووي الإيراني، ومع تكرار التهديد دون تنفيذه، يغدو من المنطقي أن مصداقية التهديدات الأحدث باتت على المحك. ودون الرجوع إلى التفاصيل سنشير إلى أحدث هذه التصريحات التي أطلقها “أفيف كوخافي” -رئيس أركان الجيش الإسرائيلي- في شهر يناير الماضي، والتي اعتبر فيها أن احتمال عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي في عهد الرئيس الأمريكي “جو بايدن” سيكون خطأ كبيراً، وسيرتب أن تتولى إسرائيل معالجة التهديد النووي الإيراني بنفسها.

والواضح أن إسرائيل لم تتحرك لتنفيذ تهديداتها المتكررة لإيران، رغم استمرار المفاوضات بين إيران وأمريكا حتى اليوم، ورغم توقّعات كبيرة بأن هذه المفاوضات ستفشل في النهاية. وكان الجانب الإيراني واضحاً في رد فعله عندما نظر إلى هذه التهديدات على أنها غير جدية، حيث صرح “محمود واعظي” -مدير مكتب الرئيس الإيراني (في ذلك الوقت) حسن روحاني- في حينها بقوله: “إنهم يتحدثون كثيراً، ويسعون إلى حرب نفسية، وليست لديهم أي خطة أو قدرة على القيام بذلك”.

رفض واشنطن

سبب ثالث يجعل من التهديدات الإسرائيلية غير جدية، هو الرفض الأمريكي الصارم لاستخدام الخيار العسكري، سواء أكان إسرائيلياً خالصاً، أو مشتركاً (إسرائيلياً – أمريكياً)؛ حيث لوحظ أن الاستخبارات الأمريكية عام 2007 أصدرت تقريراً يكذب ادعاءات إسرائيلية بأن إيران على وشك النجاح في إنتاج قنبلة نووية، ومن ثمّ أزاحت من على كاهل المسؤولين السياسيين في أمريكا الضغوط التي كانت إسرائيل تمارسها منذ ذلك الوقت وحتى توقيع الاتفاق السداسي مع إيران عام 2015 لكي تضع واشنطن “الخيار العسكري لردع إيران على الطاولة”.

وترفض الولايات المتحدة حالياً كافة الضغوط الإسرائيلية للتلويح بالعودة إلى الخيار العسكري في حالة فشل المفاوضات الجارية حالياً مع إيران، ويعترف العديد من الخبراء الإسرائيليين بأن واشنطن لا تمتلك سياسة بديلة لردع إيران حال فشل المفاوضات، وأنه من المشكوك أن تمنح الإدارة الأمريكية لإسرائيل موافقة على أي عملية عسكرية ضد إيران حتى لو فشلت المفاوضات. من ثم يصعب تصور إقدام إسرائيل على اعتماد الخيار العسكري بدون موافقة وتنسيق كاملين مع الولايات المتحدة.

بديل ناجح

كان رئيس جهاز الموساد السابق “مائير داجان” (شغل المنصب في الفترة 2002-2010) أكثر مسؤول أمني إسرائيلي رفضاً لفكرة استخدام الخيار العسكري ضد إيران، وطبق “داجان” نظريته بنجاح والخاصة باستخدام الحرب السيبرانية والعمليات الاستخبارية النوعية لمواجهة المشروع النووي الإيراني. ورأى “داجان” أن شن عمل عسكري ضد إيران سيكون عملاً كارثياً ويشكل خطراً وجودياً على إسرائيل. وحتى اليوم يبدو أن نظرية “داجان” هي التي تأخذ بها القيادات الاستخبارية بل وعدد لا يستهان به من كبار قيادات الجيش الإسرائيلي الذين لا يحبذون ضرب إيران بعمل حربي، لأن نتائجه غير مضمونة، ولأن تكلفته من خلال الرد الإيراني ستكون هائلة، وأخيراً فهم لا يحبذون هذا الخيار بدون مشاركة أمريكية كبيرة.

ويمكن ملاحظة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “بنيامين نتنياهو”، الذي كان معروفاً برغبته الجارفة في استخدام الخيار العسكري ضد إيران، لم يتمكن من تحقيق رغبته تلك رغم بقائه في منصب رئيس الحكومة أحد عشر عاماً متوالية، وهو ما يعني أن اتخاذ قرار بتوجيه ضربة عسكرية لإيران من قبل إسرائيل يبدو أمراً صعباً، خاصة وأن العمليات السيبرانية تثبت نجاحها، وهو ما تُظهره الضربات التي تلقتها المنشآت النووية الإيرانية في ناتانز في شهر أبريل الماضي، وأيضاً نجاح إسرائيل في إيقاف منظومة توزيع الوقود في طهران منذ أيام قليلة.

خيار صعب

هذه النجاحات ستقوي موقف الرافضين داخل إسرائيل للتورط في ضربة عسكرية ضد إيران، فيما تُضعف موقف الصقور المستعدين للمجازفة باستخدام هذا الخيار. وأخيراً فإن الخبرة والشعبية الضعيفة لرئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي “نفتالي بينت” ستحول عملياً دون اتخاذ قرار إسرائيلي بضرب إيران.