هل تكرر إيران النموذج اللبناني في العراق؟

صراع النفوذ:

هل تكرر إيران النموذج اللبناني في العراق؟



لا يبدو أن إيران سوف تستجيب بسهولة للمعطيات الجديدة التي فرضتها نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية التي أجريت في 10 أكتوبر الجاري، وكشفت عن تراجع نفوذ القوى السياسية الموالية لها، باستثناء ائتلاف “دولة القانون” الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي جاء في المرتبة الثالثة من حيث عدد المقاعد التي حصل عليها في البرلمان الجديد بعد كل من تحالف “سائرون” التابع للتيار الصدري وتيار “تقدم” الذي يقوده رئيس مجلس النواب المنتهية ولايته محمد الحلبوسي. وهنا، فإن ثمة جدلاً بدأ يتصاعد حول إمكانية تكرار ما حدث في لبنان في الفترة بين عامى 2006 و2008 عندما اتسع نطاق التوتر بين القوى السياسية، وانتهى الأمر بنزول عناصر حزب الله إلى الشارع، وذلك عبر قيام الأطراف العراقية الموالية لإيران بتعطيل المرحلة السياسية الجديدة، بوسائل أخرى، مثل العصيان المدني وعرقلة البرامج السياسية والاقتصادية للحكومة الجديدة، في حالة ما إذا لم تحصل على حصة وازنة فيها.

اعتبارات عديدة

لم تتراجع إيران عن مساعيها الحثيثة من أجل الوصول إلى توافق بين القوى السياسية العراقية حول تشكيل الحكومة الجديدة، على ضوء التوازنات السياسية الجديدة التي فرضتها نتائج الانتخابات. إذ ما زال قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري اسماعيل قاآني يبذل جهوداً في هذا الصدد، وربما يكون الدافع في هذه اللحظة هو محاولة تعويض الإخفاق الذي شارك فيه، وفقاً لرؤية اتجاهات عديدة، وانعكس في النتائج الهزيلة التي حققتها القوى الموالية لإيران في الانتخابات.

وبعبارة أخرى، فإن إيران تبدو مُصِّرة على تعزيز حضور القوى الموالية لها في الحكومة الجديدة، حتى لو كانت نتائج الانتخابات تطرح دلالات وتفرض أوزاناً عكس ذلك. إذ أن هذا الحضور يكتسب أهمية خاصة بالنسبة لها في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تعزيز الضغوط على ميليشيا “الحشد الولائي”: ربما يوفر غياب القوى الموالية لإيران في الحكومة الجديدة- أو على الأقل تراجع نفوذها- فرصة لبعض التيارات التي تنادي بحل ميليشيات “الحشد”، وتحديداً ما يسمى بـ”الحشد الولائي” التابع لإيران، أو نزع أسلحة عناصره، مستندة في هذا السياق إلى أن المهمة الأساسية التي تأسس من أجلها “الحشد الشعبي”، وفقاً لفتوى “الجهاد الكفائي” التي أطلقها المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني في عام 2014، انتهت بإعلان الحكومة العراقية، في 9 ديسمبر 2017، الانتصار على تنظيم “داعش”، وأن القوات العراقية تستطيع في المرحلة القادمة القيام بممارسة أدوارها في تعزيز حالة الأمن والاستقرار على المستويات المختلفة ومواجهة الخلايا المتبقية للتنظيم.

2- تصعيد الدعوة لمنع التدخل في الشئون العراقية: كان لافتاً أن تصاعد الضغوط السياسية على ميليشيا “الحشد الولائي” توافقت مع الدعوات التي بدأت تتصاعد على الساحة العراقية باستثمار نتائج الانتخابات من أجل تشكيل حكومة عراقية تستطيع تبني سياسة خارجية تدعم تطوير العلاقات العربية- العراقية، وتتراجع من خلالها عمليات تصفية الحسابات الإقليمية على الأرض العراقية. ويبدو أن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر حاول إضفاء مزيداً من الأهمية على هذه الدعوات، حيث قال، في 24 أكتوبر الجاري: “سنسعى لتوطيد العلاقات مع دول الجوار التي لم تتدخل بالشئون الداخلية للعراق، ونعمل على إيجاد مشاريع مشتركة أمنياً واقتصادياً وثقافياً وصحياً وتربوياً وصناعياً، وعلى الأصعدة كافة”، مضيفاً أن “دول الجوار ذات التدخل الواضح في الشأن العراقي، سنفتح معها حواراً عالي المستوى لمنع التدخلات مطلقاً، فإن استجابت فهذا مرحب به وإلا فسنلجأ للطرق الدبلوماسية والدولية لمنع ذلك”.

هنا، لا يمكن القول إن الصدر لا يتماهى مع إيران في بعض المواقف، بل إنه حريص على تأسيس علاقات مع قيادات عليا في طهران ويقوم بزيارة قم باستمرار، لكنه مُصِر في الوقت ذاته على الاحتفاظ بمسافة عن القوى الموالية لها داخل العراق. وانطلاقاً من ذلك، يمكن تفسير إقدامه على توجيه تحذيرات لبعض الدول بـ”اللجوء إلى تقليص التعاملات الاقتصادية والدبلوماسية معها، وغيرها من الإجراءات الصارمة المعمول بها دولياً وإقليمياً”، في إشارة إلى إيران وتركيا تحديداً.

3- تجنب الارتدادات الإقليمية للانتخابات العراقية: لا تستبعد طهران أن يتكرر ما حدث في العراق داخل دول أخرى تحظى فيها بنفوذ لا يمكن تجاهله. إذ تستعد لبنان لإجراء الانتخابات النيابية في 27 مارس 2022، وسط حالة من التوتر والتصعيد على المستوى السياسي بين القوى المختلفة، لم يقلص من حدتها تشكيل حكومة جديدة برئاسة نجيب ميقاتي في 10 سبتمبر الفائت. وهنا، فإن إيران تتحسب من أن التصعيد السياسي الحالي، والذي يمثل حزب الله رقماً رئيسياً فيه، قد تكون تكلفته السياسية عالية، خاصة في ظل استمرار الجدل داخل لبنان حول تداعيات تماهي الحزب مع السياسة الإيرانية في العراق وسوريا واليمن، لاسيما بعد أن كان الطرف الرئيسي الذي دافع عن دخول شحنات الوقود الإيرانية إلى لبنان في الفترة الماضية. وقد كان لافتاً في خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، في 22 أكتوبر الجاري، أنه حاول التلميح إلى أن الحزب بقوم بمهام رئيسية تدخل في صميم الأدوار التي تقوم بها الدولة، وهى إشارة إلى أن للحزب نفوذ سياسي في الداخل وظهير إقليمي في الخارج يفرض، في رؤيته، عقبات عديدة أمام محاولات تهميشه أو إضعاف دوره. إذ قال نصر الله أن “المقاومة ستتصرف عندما نجد أن نفط وغاز لبنان في دائرة الخطر”.

4- إضفاء وجاهة خاصة على رسائل “تشرين”: ترى طهران أن تراجع موقع القوى الموالية لها في الحكومة الجديدة سوف يطرح دلالة مهمة تتمثل في أن الرسائل السياسية التي وجهتها الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في العراق في أكتوبر 2019، اكتسبت وجاهة خاصة وفرضت نتائج جديدة على الأرض في الانتخابات، ليس فقط عبر فوز بعض مرشحي القوى التي شاركت في ما يسمى بـ”حراك تشرين”، وإنما أيضاً من خلال تقليص مقاعد القوى الموالية لطهران في البرلمان القادم. إذ حمَّلت بعض القوى التي شاركت في الحراك كلاً من إيران والميليشيات الموالية لها قسماً من المسئولية عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وعن أعمال العنف التي تعرض لها المتظاهرون خلال الاحتجاجات. وقد بدا الاستياء من الحضور الإيراني جلياً في تعرض بعض المصالح الإيرانية ومقرات القوى الموالية لها في العراق للحرق من قبل المتظاهرين خلال هذه الاحتجاجات.

5- الاستعداد لتصعيد إقليمي محتمل: تترقب طهران بدقة الترتيبات الأمنية التي توصلت إليها الولايات المتحدة الأمريكية والعراق خلال المرحلة الماضية للتمهيد لتخفيض عدد القوات الأمريكية في العراق، وتحويل دورها إلى تقديم الدعم والاستشارات للقوات العراقية. وهنا، فإن إيران تسعى إلى استغلال ذلك من أجل تعزيز حضورها داخل العراق على كافة المستويات. ومن دون شك، فإن طهران قد تواجه عقبات عديدة في حالة ما إذا لم يكن للقوى الموالية لها نفوذ واضح داخل الحكومة القادمة. كما أن إيران لا تستبعد استمرار التصعيد على مستوى الإقليمي مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أياً كان السيناريو الذي سوف تنتهي إليه مفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي.

وقد بدا ذلك جلياً في الاتهامات التي وجهها مسئولون أمريكيون، في 26 أكتوبر الجاري، لطهران بدعم الهجمات التي تعرضت لها قاعدة التنف العسكرية في سوريا قبل ذلك بخمسة أيام بواسطة طائرات من دون طيار، وهى الاتهامات التي قد تمهد لضربات عسكرية أمريكية لمواقع تابعة لإيران أو الميليشيات الموالية لها في العراق وسوريا خلال الفترة القادمة.

ختاماً، تبدو المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة قد تشهد تجدد التصعيد في بعض الملفات نتيجة استمرار الخلافات بين العديد من القوى الإقليمية والدولية حول التطورات التي طرأت على تلك الملفات في الفترة الأخيرة، فضلاً عن التشابك الملحوظ فيما بينها، على نحو يبدو جلياً في دول الأزمات تحديداً.