مصادر تهديد الأمن الوطني العربي وسياسات المواجهة

ورشة عمل:

مصادر تهديد الأمن الوطني العربي وسياسات المواجهة



تصاعدت مصادر التهديد القائمة والمحتملة التي تواجه الأمن الوطني National Security للدول العربية، خلال السنوات الماضية، بدرجة تتجاوز ما عايشته في عقود سابقة؛ إذ صارت التهديدات التي تواجه “الدولة” نابعة من الداخل وقادمة من الخارج، بأشكال مختلفة ودرجات متباينة وفي توقيتات زمنية متقاربة، وهو ما يمكن الاستناد إليه من وثائق وخطابات رسمية للقيادة السياسية أو النخبة الرسمية أو مؤسسات الأمن القومي، فضلًا عن زيارات وتحركات وتفاهمات خارجية بما يلبي المصالح الوطنية العليا لكل دولة على حدة.

في هذا السياق، نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، يوم 17 أغسطس 2021، ورشة عمل حول “مصادر تهديد الأمن الوطني العربي وسياسات المواجهة”، وشارك في الورشة عدد من خبراء الأمن الإقليمي وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذة كارن أبو الخير، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ أحمد كامل البحيري.

المصادر الداخلية

أكد المشاركون في الورشة على تنوع التهديدات التي يواجهها الأمن الوطني العربي، وتعدد مصادرها، حيث افتتح الدكتور محمد عز العرب ورشة العمل باستعراض لمصادر التهديدات العربية، على المستوى الداخلي، وفقًا لمدركات النخب الحاكمة، وتتمثل أهم هذه المصادر في استمرار التهديدات الإرهابية لدول المنطقة، وكذلك الجماعات والمليشيات المسلحة التي تصاعد تهديدها، ويُحتمل أن يستمر ذلك التهديد بعد استيلاء حركة طالبان على السلطة في أفغانستان. علاوة على ذلك، لا تزال حركات الإسلام السياسي تنتج تهديدات جديدة لدول المنطقة. كما أن المرتزقة وتزايد أدوارهم في المنطقة يشكل تهديدًا كبيرًا.

واعتبر الدكتور عز العرب أن هناك مصادر تهديد أخرى للأمن الوطني العربي، وتتمثل في الأجنحة المناوئة داخل السلطة الواحدة، وذلك على غرار حالة تونس، التي تمثل عنصرًا ضاغطًا على الاستقرار الداخلي في الدول العربية. وبموازاة ذلك التهديد، فإن بعض النخب الحاكمة، في دول مثل الجزائر والسودان، ترى أن النظم السابقة لا تزال تمثل مصدر تهديد لأمن تلك الدول لا سيما إعاقة المرحلة الانتقالية.

وفي السياق ذاته، فإن ثمة مهددات غير تقليدية للأمن الوطني العربي، بحسب الدكتور عز العرب، يتصدرها الأوضاع الديموغرافية وهي تهديد حاضر في خطابات بعض الدول، مثل مصر، إذ ترى النخب الحاكمة أن الزيادة السكانية تشكل تهديدًا جوهريًا للدولة. وهناك أيضًا الأمراض الوبائية، وكذلك معضلة الأمن المائي العربي.

المتغيرات الإقليمية

وأوضح الدكتور محمد عباس ناجي أن المتغيرات الإقليمية تشكل تهديدًا كبيرًا للدول العربية وأمنها، حيث تبرز أربعة مصادر لتهديد الأمن الوطني العربي. إذ إن وصول حركة طالبان إلى الحكم مجددًا في أفغانستان يمكن أن يشكل تهديدًا كبيرًا على الأمن الوطني العربي لأنها قد تمثل محفزًا لإحياء الحركات الأصولية في المنطقة. وربما يحتمل أيضًا أن تحدث تفاهمات بين حركات طالبان وبعض القوى الإقليمية للضغط على الدول العربية، والعمل على استنساخ نموذج حركة طالبان في دول أخرى بالمنطقة، وخاصة في بؤر الصراعات المسلحة.

كما أن وصول إيران للعتبة النووية يمثل مصدرًا متجددًا لتهديد الأمن العربي. وأشار الدكتور محمد عباس إلى أن الاتفاق النووي لا يمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، وكل ما تسعى إليه القوى الدولية في المفاوضات يتمثل في تأخير وصول طهران إلى السلاح النووي. وثمة مصدر ثالث لتهديد الأمن الوطني العربي يتمثل في المليشيات النقالة بالمنطقة. وهناك مصدر رابع للتهديد متعلق بأزمة المياه في المنطقة، وضغط دول الجوار على الدول العربية عبر هذه القضية.

معضلة أفغانستان

من جانبه، افترض الأستاذ أحمد عليبة أن الوضع في أفغانستان يرتبط بأمن المنطقة العربية، حيث إن هناك إشكالية حول مستقبل المنطقة بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، لا سيما مع الغموض المسيطر على موقف واشنطن من المنطقة في خضم التغير الذي حدث في العلاقات بين الإدارة الأمريكية وبعض الدول العربية، ولجوء إدارة “جو بايدن” إلى سياسات مفصلة لكل دولة بالمنطقة على حدة دون الاستناد إلى استراتيجية شاملة للمنطقة.

وأضاف أن الترتيبات العسكرية في المنطقة باتت غامضة هي الأخرى وذلك بعد التوجهات المهيمنة على الإدارة الأمريكية حول ضرورة الانسحاب الأمريكي من المنطقة، علاوة على المشكلات المتعلقة بعملية التسليح الأمريكي لدول المنطقة في ظل تلويح الإدارة الأمريكية المتكرر حول مراجعة صفقات التسليح لعدد من دول المنطقة. كما أن الإدارة الأمريكية تواجه أزمة في منظومة التسليح بدول المنطقة، حيث يبدو أن أغلب الأسلحة الخاصة بحلفاء واشنطن في المنطقة باتت أسلحة تقليدية لم تعد قادرة على التعاطي مع التهديدات غير التقليدية التي تواجهها الدول، وخصوصًا مع التطور في قدرات بعض الفاعلين المسلحين من غير الدول. ولعل النموذج على ذلك إسقاط الحوثيين لطائرات تجسس أمريكية من نوع سكان إيجل Scan Eagleعلى الأراضي اليمنية.

والأمر المثير للانتباه أن هذا الغموض إزاء الترتيبات العسكرية في المنطقة في ضوء التوجهات الأمريكية الراهنة، تزامن مع مشكلات متعلقة بتدخلات قوى إقليمية تعمل على إعادة تشكيل عدد من الدول العربية، علاوة على الأزمة التي باتت تواجهها المؤسسات العسكرية في بعض الدول، مثل ليبيا، والكيفية التي سيتم خلالها إعادة بناء جيش وطني. كما أن المنطقة أصبحت تواجه فوضى تسليح في ظل بزوغ تأثير المليشيات المسلحة والجماعات المرتزقة. علاوة على ظاهرة التجارب العسكرية في المنطقة، حيث تلجأ بعض الدول، مثل روسيا وتركيا، إلى استخدام دول مثل سوريا وليبيا كمناطق لتجارب التسليح والاستراتيجيات العسكرية.

واعتبر الأستاذ أحمد عليبة أنه بينما تثار الشكوك حول مستقبل الدور الأمريكي في المنطقة، وتتصاعد التهديدات من جانب بعض الدول الإقليمية مثل إيران وتركيا، نجد أن الدول العربية تفتقر إلى صياغة ترتيبات أمنية مشتركة لمواجهة مثل هذه التهديدات.

خطر الإرهاب

وتعرض الأستاذ أحمد كامل البحيري إلى التهديدات التي تمثلها التنظيمات الإرهابية بالنسبة لدول المنطقة، وهو ما يتعلق بعدد من المحددات الرئيسية المتمثلة في:

1- المحدد العقائدي والخلافات بين الإطار الفكري والأيديولوجي للتنظيمات الإرهابية والتي تؤثر بشكل كبير على تحركات كل تنظيم.

2- المحدد البيئي – المحلي، والذي يرتبط بمدى ارتباط التنظيم بكل بيئة مجتمعية وتأثير هذه البيئة على نشاط التنظيم، ولا سيما أن بعض التنظيمات الإرهابية تكون مترسخة في البيئة المحلية وترتبط بمكونات هذه البيئة.

3- محدد الارتباط التنظيمي، الخاص بدرجة ارتباط التنظيمات المحلية بتنظيمات إرهابية أخرى عابرة للحدود، مثل داعش أو القاعدة، والذي يمكن أن يكسب أنشطة التنظيم المزيد من الزخم.

4- المحدد الخاص بأزمات المنطقة على المستوى السياسي، والذي يسمح للتنظيمات الإرهابية بتوسيع أنشطتها مستغلة في ذلك حالة الضعف والهشاشة التي يواجهها عدد من دول المنطقة مثل سوريا واليمن وليبيا.

5- محدد الصراعات البينية بين التنظيمات الإرهابية، ولعل هذا ما يتضح من الصدام بين تنظيم القاعدة وداعش في أكثر من منطقة، وسعي كل تنظيم إلى استقطاب المزيد من العناصر.

6- محدد التعاون الأمني بين الدول الوطنية، وهو يلعب دورًا هامًا في مواجهة تهديد التنظيمات الإرهابية، خصوصًا أن التنظيمات تستغل الهشاشة الحدودية بين الدول من أجل توسيع دائرة نشاطها.

وخلُص الأستاذ أحمد البحيري إلى وجود إشكاليات في طريقة تعامل دول المنطقة مع التنظيمات الإرهابية، ربما أهمها وجود تباينات في المنطقة حول تعريف ماهية التنظيمات الإرهابية، ناهيك عن التباين بين السلطة والنخب في بعض الدول حول استراتيجية مكافحة الإرهاب التي لم تأتِ نتاج حوار مجتمعي واسع، وهو ما يؤدي إلى تعاظم التهديدات التي تواجه الأمن الوطني للدول العربية.

التأثيرات الدولية

كما استعرضت الأستاذة كارن أبو الخير كيفية تأثير المتغيرات الدولية على المنطقة، حيث من المرجح أن تتأثر المنطقة العربية بتحولات متعددة من خارجها، لها تداعيات سلبية على فرص دولها في تحقيق التقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي، ومن أهمها:

1- تفتت القوة في النظام الدولي: بحيث لم تعد هناك قوة عالمية قادرة على ضمان الأمن لأي دولة في المنطقة، وهو افتراض يسري على كافة القوى الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين وروسيا. وهذا الأمر فتح المجال أمام عدة قوى للتنافس على احتلال مكانة أكبر في هذه المرحلة من سيولة النظام الدولي، منها دول تصنف كبرى، مثل الصين وروسيا واليابان، وأخرى تعد “متوسطة” مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، بالإضافة إلى دول في الجوار العربي المباشر مثل تركيا وإيران. وبينما تنظر العديد من الدول إلى هذا الوضع بوصفه فرصة لتحقيق المكاسب، فإنه يمثل في الوقت نفسه مصدر مخاطر، حيث يتشتت العالم العربي بين “مشاريع” متعددة، لقوى لها مصالح متناقضة، بما يقوض مساعي التعاون والتضامن العربي من ناحية، ويجعل بعض هذه الدول ضحية للتنافس الدولي من ناحية أخرى.

2– تراجع الأهمية الاستراتيجية للمنطقة في مقابل صعود الاهتمام بمنطقة “الهندي-الباسيفيكي”: إذ أصبح الامتداد بين المحيطين الهادي والهندي محور اهتمام الولايات المتحدة والدول الأوروبية، إضافة إلى الهند واليابان وأستراليا، في مواجهة تعاون متصاعد بين الصين وروسيا. وبينما تسعى هذه الدول لتطوير استراتيجيات جديدة في هذه المنطقة، تراجعت أهمية المنطقة العربية لكي تصبح استراتيجيًا في الأساس ممرًا ومدخلًا لهذه المنطقة الأكثر أهمية. في هذا الإطار، يتقلص الاهتمام بالمنطقة العربية بتأمين نقاط الارتكاز والموانئ والقواعد وممرات الطاقة والتجارة، ويتراجع الاهتمام بدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية.

3- المنطقة العربية كحائط صد لموجات الهجرة: كنتيجة لتغيرات المناخ وتصاعد الصراعات، يتوقع العالم موجات جديدة من الهجرة، خاصة من مناطق جنوب آسيا والقارة الإفريقية، متجهة إلى أوروبا والولايات المتحدة. ولأن هذه الدول ليست على استعداد لاستقبال أعداد كبيرة من المهاجرين، فهي ستعتمد سياسات تمنعهم من الوصول الى أراضيها، باتفاقيات مماثلة للاتفاق الأوروبي مع تركيا، وستسعى لتكراره في ليبيا مثلًا. وبالتالي سيقع عبء التعامل مع هذه الموجات الجديدة من الهجرة على دول المنطقة، التي تعاني أصلًا من التعامل مع النازحين من النزاعات الإقليمية.

4- تغير المناخ: حيث تعاني دول المنطقة من ارتفاع الحرارة ونقص المياه والتصحر وأخيرًا انتشار الحرائق، وكلها تؤثر سلبًا على الإنتاج الزراعي وتوافر أماكن الرعي للماشية، كما تضع أعباء على استهلاك الكهرباء لمواجهة الحر الشديد. وكما يؤثر ذلك على الوضع الاقتصادي والسياسي الداخلي للدول، فهو أيضًا محفز لاندلاع الصراعات، سواء الداخلية مثل الصراع في دارفور بين المزارعين والرعاة، أو الصراعات بين الدول، خاصة حول الأنهار عابرة الحدود وتقسيم استغلالها بشكل عادل.

وعطفًا على ما سبق، فإن القوى الغربية لن تهتم كثيرًا بالمنطقة سوى في إطار وظيفي يستند إلى ما تقوم به المنطقة من وظائف محددة، سواء كونها ممرًا لمناطق أخرى أكثر أهمية، أو لكونها حائط صد لموجات الهجرة إلى العالم الغربي.

سياسات مقترحة

أكد المشاركون في ورشة العمل على ضرورة تبني الدول العربية لعدد من السياسات المقترحة لمواجهة التهديدات، ومنها:

1- تطوير الخبرات والقدرات العسكرية، وذلك لأن الخبرة توضح أن النواة الصلبة للدول العربية هي الجيوش القادرة على الحفاظ على استقرار وتماسك الدول الوطنية، والتصدي لخطر التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة و”العصابات الإجرامية”، وإخراج المجموعات المسلحة الأجنبية من البؤر الصراعية، وتحرير المناطق الجغرافية من سيطرة المليشيات المسلحة، وإدارة المنظومة الصحية للتعامل مع تداعيات انتشار جائحة (كوفيد-19).

2- تعزيز مساحات التوافق والتنسيق بين الدول العربية، سواء في المجالات الأمنية أو التعاون الاقتصادي، وقد ظهر ذلك في الشهور الأخيرة من خلال عدد من التوجهات، مثل تعزيز العلاقات بين مصر والسعودية والإمارات، وأيضًا تطوير العلاقات بين السعودية ومصر وقطر، وكذلك مصر والعراق والأردن، وذلك لإرسال رسالة جدية بحرص الدول على معالجة المشكلات الداخلية التي قد تتسبب في إثارة الأزمات.

3- تهدئة الخلافات العربية مع القوى الإقليمية، ولعل هذا ما يتضح في تهدئة التوترات بين تركيا والدول العربية الأخرى، وذلك بالرغم من كونها سياسات تكتيكية من جانب أنقرة، أو حتى المؤشرات حول رغبة السعودية في تهدئة التوترات بينها وبين إيران، ودعم الحوار معها، لحل أزمة اليمن.

4- التفاهمات المصلحية بين الدول العربية مع القوى الدولية، ولعل هذا ما يتضح من خلال صفقات التسليح التي تحصل عليها الدول العربية من القوى الدولية، كما أن الدول العربية تحتاج إلى القوى الدولية في عدد من الملفات الأخرى، مثل ملف اللقاحات المضادة لفيروس كورونا المستجد. ناهيك عن التوافقات بين الدول العربية المنتجة للنفط مع القوى الدولية حول سياسات إنتاج وأسعار النفط.