لماذا يطالب قطاع من الرأي العام التونسي بحل النقابات الأمنية؟

وقف التجاوزات:

لماذا يطالب قطاع من الرأي العام التونسي بحل النقابات الأمنية؟



أصدرت وزارة الداخلية التونسية بياناً، في 16 أغسطس 2022، أشارت فيه إلى أنها بصدد اتخاذ جملة من الإجراءات القانونية والتأديبية اللازمة ضد بعض قوات الأمن المنتسبين للنقابات الأمنية في البلاد. وأرجع البيان أسباب ذلك إلى ارتكاب بعض أفراد الأمن تجاوزات تتعارض مع واجب الانضباط والجدية في القيام بمهامهم المرتبطة بحفظ الأمن داخل المجتمع، وأشار البيان إلى أن هذه الإجراءات تم اتخاذها في إطار الحرص على احترام مبدأ المساواة بين الجميع أمام القانون وحماية الحقوق والحريات.

دوافع التصعيد

يأتي إصدار وزارة الداخلية البيانَ الذي أشارت فيه إلى اتخاذها مجموعة من الإجراءات التأديبية والقانونية ضد بعض أفراد الأمن، في ظل تصاعد العلاقة بين النقابات الأمنية والدولة التونسية في الوقت الحالي الذي تشتد فيه الأزمة السياسية، وهو ما دفع البعض داخل البلاد للمطالبة بحل النقابات الأمنية. ويمكن توضيح أسباب ذلك التصعيد من خلال الآتي:

1- القيام بدور الهيئة الرقابية، أثارت واقعة تدخل بعض رجال الأمن لمقاطعة أحد العروض المسرحية بولاية “صفاقس” للفنان التونسي “لطفي العبدلي” ومنعه من استكمالها، متهمين إياه باستفزاز رجال الأمن المكلفين بتأمين هذا العرض المسرحي الذي كانت تحضره أعداد كبيرة من المواطنين؛ إشكالية بسبب تدخل قوات الأمن باعتبارهم هيئة رقابية ومنح أنفسهم الحق في الوصاية على الذوق العام وحرية الفن والإبداع، بشكل يؤدي إلى توتر العلاقة بين المواطنين وقوات الأمن.

2- إثارة الفوضى والاشتباك مع المدنيين، اتهم الفنان التونسي “لطفي العبدلي” أفراداً من قوات الأمن المكلفين بتأمين العرض المسرحي الخاص به بمقاطعته ومنعه من استكمال عرض مسرحيته أمام جمهور غفير، بل وامتد الأمر إلى القيام بالاعتداء بالعنف على مدير إنتاج المسرحية، الأمر الذي استوجب نقله للمستشفى، وهو ما أثار حفيظة النشطاء الحقوقيين الذين طالبوا بمحاسبة المتورطين من رجال الأمن وحل نقاباتهم الأمنية.

3- ارتكاب تجاوزات دستورية، أثار قيام أفراد الأمن بالتدخل ووقف العرض المسرحي في ولاية “صفاقس”، رد فعل رئيس الدولة “قيس سعيد” الذي تدخل بشكل غير مباشر، وذلك من خلال الإشارة إلى أن عدم تأمين أي تظاهرة تحت أي مبرر أو ذريعة يعد إضراباً مقنَعاً، وإخلالاً بواجبهم المهني، وهو ما يتعارض مع ما ينص عليه الدستور الوطني للبلاد، الذي يكفل حرية الإضراب العام لكافة أفراد المجتمع فيما عدا قوات الأمن، وهو ما أكد عليه الرئيس “سعيد” خلال اجتماعه مع وزير الداخلية “توفيق شرف الدين” قبل أسبوع مذكراً إياه بما ينص عليه الدستور وفي الوقت نفسه دفعه لاتخاذ ما يلزم من إجراءات لوضع حد لهذه التجاوزات.

   4- رفض الإجراءات التأديبية والقانونية، أعلنت الجبهة الوطنية للنقابات الأمنية (تضم 8 نقابات أمنية مثل “نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل”، و”الاتحاد الوطني لنقابات الأمن التونسي”، و”النقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي”…) رفضها الإجراءات التي أعلنت عنها وزارة الداخلية ضد أفراد قوات الأمن، مستنكرة الخطاب السياسي لرئيس الدولة “قيس سعيد” ووزير داخليته. وعبرت في بيان صادر عنها أنها كانت تنتظر خطاباً مختلفاً يتم فيه الإشادة بالجهود الاستثنائية التي تقوم بها قوات الأمن الداخلي نظير قيامهم بتأمين المواطنين في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد منذ العام الماضي، وتمسك قوات الأمن بموقف حيادي إزاء أطراف الأزمة السياسية المتفاقمة في البلاد، كما حاولت الجبهة الوطنية للنقابات استمالة الرأي العام لصالحها من خلال توجيه ما أطلقوا عليه “التركيع” و”التسييس” من قبل الحكومات المتعاقبة.

  5- رفض الاندماج في اتحاد نقابي واحد، كما عبرت الجبهة الوطنية للنقابات الأمنية عن رفضها المقترح الذي قدمه رئيس الدولة “قيس سعيد” للتوحد في هيكل نقابي واحد تحت مسمى “الاتحاد التونسي العام لقوات الأمن الداخلي”، على أن تتحدد مهامه في المسائل الاجتماعية لأفراد الأمن وعائلاتهم وذويهم؛ إذ إن النقابات الأمنية ترفض الاندماج ضمن هيكل نقابي موحد، وهو ما يعد رفضاً لمطلب رئيس الدولة بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة (الجيش – قوات الأمن الداخلي…)، بما يشير إلى توتر العلاقة بين قوات الأمن الداخلي ورئيس الدولة.

دلالات متعددة

تشير التطورات الخاصة بتوتر العلاقة بين قوات الأمن الداخلي والرئيس “قيس سعيد” وحكومته، إلى مجموعة من الدلالات السياسية والأمنية، ومنها ما يلي:

1- تصوير دعوة الرئيس سعيد بأنها “إملاءات سياسية”، يرى رجال الأمن المنتسبون للنقابات الأمنية أن دعوة رئيس الدولة لتكوين هيكل نقابي موحد للنقابات الأمنية الثمانية، ما هي إلا محاولة من قبل السلطة لتركيع النقابات، من خلال الإملاءات السياسية من قبل رئيس الدولة، وأن تكوين هذا الهيكل يجب أن يصدر من خلال النقابات ومن داخلها، وليس فرضه من أعلى، في إشارة إلى السلطة التنفيذية. وتُدافع النقابات الأمنية عن حقها في ممارسة العمل النقابي المتعدد الذي يعد مكسباً لكافة الأطراف، وأن الأصل في هذا الأمر يتمثل في توحيد المواقف والآراء، وليس في تركيع النقابات من خلال هيكل واحد، كما أن هذه النقابات ساهمت في تحسين الأوضاع المعيشية والاجتماعية لأبناء المؤسسة الأمنية، ويشير ذلك إلى الاختلاف الحاصل في الرؤى بين المنتسبين للنقابات الأمنية والدولة إزاء كيفية ممارسة العمل النقابي بما لا يخل بالصالح العام.

   2- تصاعد أصوات تحقيق المساواة أمام القانون، أدت واقعة تدخل قوات الأمن الداخلي ووقف أحد الأعمال الفنية، إلى تعالي الأصوات المطالبة بضرورة محاسبة المتورطين من قوات الأمن، انطلاقاً من مبدأ المساواة بين جميع أفراد الشعب التونسي أمام القانون، وأن رجال الأمن ليسوا فوق القانون، خاصة وأن البيان الصادر عن النقابات الأمنية في هذا الخصوص يعبر عن اعتراضها على معاقبة المقصرين من رجال قوات الأمن. وهو ما يدفع في المقابل إلى تعالي الأصوات وخاصة من قبل أنصار الرئيس “سعيد” بضرورة وقف ما أطلقوا عليه “عربدة النقابات الأمنية” وذلك من خلال حل هذه النقابات بعد أن وجدوا فيها تهديداً للأمن الداخلي والقومي للبلاد، ووصل الأمر إلى حد اتهام النشطاء الحقوقيين للنقابات الأمنية بممارستها نفس الدور الذي مارسته حركة النهضة خلال الفترة الأخيرة، وترتب على ذلك الإضرار بالمصالح الوطنية للبلاد، وتأزيم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

3- معضلة إصلاح الجهاز الأمني، أثارت حادثة تدخل قوات الأمن الداخلي لوقف أحد العروض الفنية، إشكالية إصلاح الأجهزة الأمنية؛ حيث يرى المطالبون بحل النقابات الأمنية، أنها ظهرت واستمرت في المشهد السياسي الحالي بسبب تقاعس الحكومات المتعاقبة منذ تشكيل هذه النقابات عام 2011 عن إصلاح الأجهزة الأمنية في البلاد، كما ساهمت سياسات وممارسات حركة النهضة التي اخترقت من خلالها هذه الأجهزة لتنفيذ أجندتها الخاصة على حساب المصلحة العليا للبلاد في تراكم المشكلات داخل الأجهزة الأمنية.

كما تسببت الممارسات الخاطئة لهذه النقابات في تغول أعضائها وانحرافهم بالعمل النقابي، سواء لتحقيق مصالح حزبية أو مصالح لبعض رجال الأعمال وأصحاب النفوذ. وتمثلت أبرز مظاهر تغول النقابات الأمنية في حصار مقر الحكومة عام 2016 للحصول على مطالب مادية، وفي عام 2017 هددت النخبة السياسية للموافقة على قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين، ومحاصرتهم مقر محكمة “بن عروس” في عام 2018، وفي عام 2020 للضغط على القاضي لعدم إصدار حكم ضد بعض رجال الأمن بسبب تورطهم في جرائم تعذيب.

   4- تصعيد نقابي تجاه مؤسسة الرئاسة ووزارة الداخلية، يعكس البيان الصادر عن النقابات الأمنية إلى اتجاه الأوضاع نحو التصعيد بينها وبين الدولة التونسية، وخاصة مؤسسة الرئاسة ووزارة الداخلية، حيث تضمن البيان الصادر عن النقابات الأمنية إشارة صريحة إلى أنها ستدافع عن حقوق المنتسبين إليها، وأن محاولات توحيد النقابات الأمنية في هيكل نقابي واحد يعد تعدياً على حرية العمل النقابي، كما سيعطي رؤية خاطئة لمسار 25 يوليو الذي ينتهجه الرئيس “سعيد” لإجراء تغييرات سياسية ودستورية جذرية.

ومن المؤشرات الدالة كذلك على اتجاه النقابات الأمنية للتصعيد ما أشارت إليه في البيان الصادر عنها بعدم قيامها مستقبلاً بتأمين أي عمل فني يخدش الحياء العام ويمس الذوق العام، وهو ما أثار جدلاً واسع النطاق على مواقع التواصل الاجتماعي والساحة الثقافية داخل المجتمع التونسي الذي يرفض الوصاية من قبل قوات الأمن على الأعمال الفنية على هذا النحو الذي تهدد به النقابات الأمنية.

خلاصة القول، تُرجّح المعطيات الراهنة، اتجاه رئيس الدولة “قيس سعيد” وحكومته لاتخاذ إجراءات قانونية لوقف تجاوزات رجال الأمن من المنتسبين للنقابات الأمنية منعاً لتكرارها، وفي الوقت نفسه احتواء الموقف وعدم التصعيد تجنباً لأية سيناريوهات محتملة بقيام النقابات الأمنية بالتصعيد والتوقف عن القيام بواجباتهم الأمنية، لما في ذلك من تداعيات كارثية على الاستقرار الأمني داخل البلاد، خاصة أن الرئيس “سعيد” يرغب في تنفيذ باقي الإصلاحات السياسية وخاصة إجراء الانتخابات البرلمانية المقررة في 17 ديسمبر القادم، مع الأخذ في الاعتبار أن قوات الأمن الداخلي سيكون لها دور كبير في تأمين هذا الاستحقاق الانتخابي.