لماذا هاجمت تركيا قرارات الرئيس التونسي؟

البعد الخارجي:

لماذا هاجمت تركيا قرارات الرئيس التونسي؟



رغم أن الأزمة السياسية التي تشهدها تونس في الوقت الحالي عنوانها الأساسي داخلي يتركز حول الخلاف على السلطات بين مؤسسات الدولة، والذي خصم من قدرتها على مواجهة المشكلات المعيشية المختلفة، التي ساهمت في تفاقم حدتها جائحة “كوفيد- 19″، إلا أن البعد الخارجي كان حاضراً فيها منذ الوهلة الأولى بشكل لا يمكن تجاهله. ويعود ذلك في المقام الأول إلى اعتبارين: الأول، أن قسماً من التنازع على الصلاحيات امتد حتى إلى قضايا السياسة الخارجية، بعد أن حاولت حركة النهضة تكريس نفوذها في تحديد اتجاهات تلك السياسة، لاسيما فيما يتصل بتعزيز العلاقات الثنائية مع دول معينة مثل تركيا، فضلاً عن الأفرع المختلفة لجماعة الإخوان المسلمين. وبدا ذلك جلياً في المواقف التي اتخذتها الحركة إزاء التطورات العسكرية والسياسية التي تجري على الساحة الليبية، وحرصها على التماهي مع الأطراف الحليفة لأنقرة في هذا السياق.

والثاني، أن أطرافاً إقليمية ودولية عديدة سرعان من انخرطت في الأزمة، وكان أولها تركيا نفسها، التي هاجمت القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد، في 25 يوليو الجاري، وتحديداً ما يتعلق بإقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان لمدة شهر، رغم أن ما يحدث، كما ذكر سابقاً، هو شأن داخلي تونسي يعود في المقام الأول إلى وجود إشكالية تتصل بالعلاقات بين السلطات الثلاثة، فرضتها طبيعة الدستور التونسي وغياب المحكمة الدستورية العليا. ففي هذا الصدد، استنكر المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن، في اليوم نفسه، ما وصفه بـ”تعطيل العملية الديمقراطية”، وأضاف: “نرفض تعليق العملية الديمقراطية، وتجاهل الإرادة الديمقراطية للشعب في تونس الصديقة الشقيقة… ونحن ندين المحاولات الفاقدة للشرعية الدستورية والدعم الشعبي، ونثق أن الديمقراطية التونسية ستخرج أقوى من هذا المسار”.

دوافع عديدة:

يمكن تفسير أسباب الانتقادات التي وجهتها تركيا للقرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد في ضوء اعتبارات رئيسية ثلاثة، تتمثل في:

1- محاصرة المشروع: أبدت تركيا اهتماماً خاصاً بتونس منذ اندلاع ما يسمى بـ”ثورة الياسمين” في أواخر ديسمبر 2010، والتي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وسعت إلى تعزيز فرص سيطرة حركة النهضة على مؤسسات الدولة، لاسيما البرلمان، باعتبار أن ذلك يساعد في دعم الحضور التركي على المستوى الإقليمي عبر الحلفاء والوكلاء من قوى الإسلام السياسي. وقد كان لافتاً أن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي كان دائماً حريصاً على تأكيد أنه أقرب إلى “النموذج التركي” ممثلاً في حزب العدالة والتنمية الحاكم، مقارنة بنماذج أخرى مثل “النموذج الإيراني”. وتبنى فعلاً استراتيجية “التمدد الناعم” التي استخدمها الحزب الأخير من أجل السيطرة على مراكز صنع القرار في الدولة، وهو ما فرض في النهاية تداعيات وخيمة على تونس، بدت جلية في تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

ومن هنا، فإن القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد، والتي توازت مع استمرار الاحتجاجات في المحافظات التونسية المختلفة، بسبب تردي الأوضاع المعيشية وتصاعد تأثيرات جائحة كورونا، كانت، في قسم منها، تعبيراً عن الاعتراض على هذا النهج الذي تسببت فيه الحركة، والحكومة التي اتجهت إلى التحالف مع ما يسمى بـ”الحزام السياسي والبرلماني” الذي قادته الحركة في البرلمان بالمشاركة مع حزب “قلب تونس”. وبمعنى آخر، فإن أنقرة اعتبرت أن الهدف الأساسي من هذه القرارات هو محاصرة المشروع الذي تتبناه حركة النهضة والذي ترى الأولى أنه يعزز مصالحها داخل تونس وفي دول الجوار.

2- مناوئة الحضور التركي: لا يمكن فصل تصاعد الخلافات بين القوى السياسية التونسية، في الفترة الأخيرة، والتي كانت في حد ذاتها انعكاساً للأزمة السياسية التي تشهدها البلاد، عن اتساع نطاق الاستياء الداخلي من الحضور التركي على المستويات المختلفة، لاسيما الاقتصادي. وبدا ذلك جلياً في تزايد الجدل داخل مجلس النواب حول اتفاقية “التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمار بين تونس وتركيا” والتي تم إبرامها في عام 2017. وقد بدأت هذه الخلافات في أبريل وسبتمبر 2020، نتيجة التحفظات التي أبدتها أطراف عديدة عليها، لدرجة دفعت النائب مبروك كرشيد إلى وصف الاتفاقية بأنها “نوع من الاستعمار الجديد”.

واللافت هنا، أن عواقب التقارب بين تركيا والنهضة كانت رقماً مهماً في الجدل الذي شهدته تونس بالتوازي مع الاحتجاجات الأخيرة. فقد أعلنت السلطات التونسية، في 22 يونيو 2021، عن إعفاء خمسة مسئولين أمنيين في وزارة الداخلية بسبب السماح بدخول إرهابي مصنف خطيراً دون جواز سفر عبر مطار قرطاج قادماً من تركيا. ولا ينفصل ذلك عن ما سبق أن أثير من جدل، في مارس 2020، حول احتمال استغلال بعض العناصر الإرهابية رحلات الإجلاء التي قامت بها السلطات التونسية للمواطنين من تركيا إلى تونس في أعقاب تصاعد أزمة انتشار فيروس “كوفيد -19”. إذ اتهم خالد الكريشي رئيس لجنة الصحة في البرلمان، في 25 من هذا الشهر، السلطات بعدم التدقيق في هوية 500 عائد من تركيا ضمن رحلات الإجلاء، مشيراً إلى أن لديه معلومات عن تسلل بعض الإرهابيين عبر تلك الرحلات إلى داخل تونس.

3- الدعوة إلى تغيير الوضع القائم: رغم أنه لم تتضح بعد المسارات المحتملة التي يمكن أن تتجه إليها الأزمة السياسية الحالية، إلا إنها ساهمت في النهاية في إلقاء الضوء على سلبيات الوضع القائم، نتيجة التداخل في الصلاحيات وعدم وضوح حدود العلاقة بين مؤسسات الدولة، وهو الوضع الذي سعت حركة النهضة إلى تكريسه لتعزيز نفوذها داخل مؤسسات الدولة. ومن دون شك، فإن ما يزيد من أهمية ذلك، هو أن هذا الوضع كان السبب الأساسي في اتساع نطاق الخلافات بين حركة النهضة والقوى المناوئة لها، والتي بدت جلية في المواجهات السياسية العديدة التي شهدها مجلس النواب بين هذه الأطراف. وبمعنى أدق، يمكن القول إن أهم ما نجحت فيه حركة النهضة هو أنها ساهمت في تكتيل خصومها ضدها، نتيجة سعيها إلى الاستفراد بإدارة شئون الدولة وتقليص صلاحيات المؤسسات الأخرى.

ختاماً، تبدو الأزمة السياسية التونسية مفتوحة على سيناريوهات متعددة، لاسيما في ظل تباين مواقف القوى السياسية المختلفة إزاء القرارات التي اتخذها الرئيس سعيّد، على نحو يوحي بأن الفترة المحددة لتلك القرارات، وهى شهر، سوف تكون حاسمة في تحديد المسار الذي سوف تتجه إليه الأزمة في النهاية. لكن بصرف النظر عن هذا المسار المحتمل، فإن أهم ما تطرحه تلك الأزمة من دلالات يتمثل في خطورة استمرار النهج الذي تتبعه حركة النهضة وسعت إلى استغلاله دائماً لتعزيز نفوذها في مختلف مؤسسات الدولة، وهو نهج كان دائماً موضع دعم من جانب أنقرة.