لماذا عاد ترسيم الحدود البحرية الكويتية العراقية للواجهة؟

منافسة إقليمية:

لماذا عاد ترسيم الحدود البحرية الكويتية العراقية للواجهة؟



ظهرت إشكالية ترسيم الحدود البحرية بشكل مكثف في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية، على خلفية حاجة الدول للاستفادة من إمكاناتها البحرية، سواء مما تحتويه من موارد للطاقة أو كممرات لنقل التجارة. وتأتي مطالبة الكويت بإعادة فتح ملف استكمال ترسيم الحدود البحرية مع العراق من هذا المنطلق، ولا سيما مع سعيها لتعظيم دور قطاع النقل البحري في ضوء اشتداد المنافسة الإقليمية، وإمكانية توظيف التطورات الإقليمية والدولية لإعادة الزخم لذلك الملف، والتي على رأسها الانفتاح العراقي على دول المنطقة، وفتح ملف ترسيم الحدود البحرية الإيرانية/العراقية، والاستفادة من التحولات الدولية تجاه منطقة الخليج.

إذ أكّد رئيس مجلس الوزراء الكويتي “أحمد نواف الأحمد الصباح”، في 20 ديسمبر 2022 (أثناء كلمته الافتتاحية في مؤتمر “بغداد للتعاون والشراكة-2” الذي عقد الأردن)، على ضرورة إغلاق كافة الملفات العالقة بين الكويت والعراق، ولا سيما استكمال ملف ترسيم الحدود البحرية بعد العلامة 162 (انظر الخريطة رقم 1)، لافتاً إلى أن ذلك الملف سيُسهم في تعزيز أواصر العلاقات الثنائية بين البلدين، ولتفويت الفرصة على من دأب على استغلال هذه الملفات في بث أكاذيب للتأثير سلباً على العلاقات الثنائية المشتركة.

(Source: www.alraimedia.com)

يُذكر أن البيان الختامي للمجلس الأعلى لمجلس التعاون الخليجي (صدر في 9 ديسمبر 2022 بالسعودية)، أكد في بنوده على ذلك الملف، حيث نص على: “أهمية التزام العراق بسيادة دولة الكويت، وعدم انتهاك القرارات والاتفاقيات الدولية، وبالأخص قرار مجلس الأمن رقم 833، بشأن ترسيم الحدود بين البلدين واتفاقية تنظيم الملاحة البحرية في خور عبدالله، المبرمة بين البلدين والمودعة لدى الأمم المتحدة. ودعا المجلس جمهورية العراق إلى استكمال ترسيم الحدود البحرية مع دولة الكويت لما بعد العلامة 162، معبراً عن رفضه القاطع لأي انتهاك يمسّ سيادة دولة الكويت، واحتفاظها بحقها في الرد وفق القنوات القانونية.”

دوافع التحرك

تزايد الاهتمام الكويتي بضرورة تسوية ملف الحدود البحرية مع العراق مؤخراً، بالرغم من مرور أكثر من 29 عاماً على إصدار مجلس الأمن لقرار 833 في عام 1993 بشأن ترسيم الحدود بين البلدين، وهو ما يرجع إلى عدد من الأسباب، أبرزها ما يلي:

1- تعظيم دور قطاع النقل البحري في ضوء المنافسة الإقليمية: تتزامن تحركات الكويت مع مطالبات بإنجاز مشروع ميناء “مبارك الكبير” (انظر الخريطة رقم 2)، وكذا استهداف الكويت توفير مناخ آمن لتجارتها البحرية بدون عراقيل نتيجة تداخل مياهها الإقليمية مع المياه العراقية، حيث يوفر الميناء فرصاً متعددة تتيح للكويت دوراً أكبر في التجارة البحرية بمنطقة الخليج، وكذا كمنطقة عبور يمكن من خلالها الربط البري مع باقي دول الخليج (وفق مخطط المشروع للربط عبر السكك الحديدية)، وضعاً في الاعتبار أن هناك اعتراضات عراقية على ذلك الميناء لتأثيره على القدرة التنافسية للموانئ العراقية، ولا سيما ميناء “الفاو” المقرر إنشاؤه لتوفير منفذ بحري مهم للعراق، وكذا اعتماده كمحور للربط بين الشرق ودول أوروبا عبر تركيا.

(Source: www.emaratalyoum.com)

تكشف التحركات الإقليمية، سواء من دول الخليج أو العراق وإيران، اتجاهها لتعزيز دور موانئها البحرية وتطويرها للعب دور أكثر فاعلية في التجارة الدولية على اعتبار أن الخليج العربي من أهم شرايين الملاحة البحرية في ضوء ارتباطه بمضيق هرمز، فنحو 30% من صادرات الغاز الطبيعي العالمية تمر من خلالهما (طبقاً لبيانات شركة “بريتش بتروليم” لصادرات الغاز في 2018)، كما أن نحو 20% من الإنتاج العالمي للنفط يمر من خلال الخليج ومضيق هرمز، وهو ما يشكل في الوقت نفسه نحو 33% من إجمالي النفط المنقول بحراً حول العالم، وفقاً لبيانات عامي 2017 و2018 (انظر جدول رقم 1).

(Source: www.eia.gov)

تتزايد أهمية نقل الطاقة عبر الخليج العربي ومضيق هرمز بسبب الحصار الغربي المفروض على روسيا، والسعي لتقليص الاعتماد عليها في توريد النفط والغاز مستقبلاً، مما يلفت لأهمية دول الخليج في الإسهام في تحقيق المسعى الغربي، ولا سيما مع الاتجاه لتصدير الطاقة المتجددة، خاصة الأمونيا منخفضة الكربون لألمانيا، والأمونيا الزرقاء لليابان وكوريا الجنوبية، التي شرعت الإمارات والسعودية في تصديرهما بالفعل.

وفق المعطيات السابقة، يُرجَّح ازدياد أهمية منطقة الخليج العربي ومضيق هرمز كشريان ملاحي في المستقبل، وبما يتطلب تهيئة البنية التحتية لذلك الأمر، لذلك ترى الكويت ضرورة البدء في التفاوض مع العراق بشأن ترسيم الحدود البحرية، نظراً لأنها تأخذ وقتاً طويلاً، حيث لا تملك الكويت رفاهية الوقت الذي يتيح لها التأخر في إنجاز مشروعاتها العملاقة (مثل ميناء “مبارك الكبير”) والاستفادة منها، لا سيما وأن تطوير الموانئ التجارية الكويتية من إحدى ركائز رؤية 2035.

2- توظيف الانفتاح العراقي على دول المنطقة: ترى الكويت أن الفرصة الراهنة مواتية لإعادة فتح ملف ترسيم الحدود البحرية في ضوء توجه النخبة العراقية الحالية في زيادة انفتاحها على دول المنطقة، وهو ما تم الإعلان عنه رسمياً في أكثر من موقف كان أبرزها إعلان مستشار الأمن القومي العراقي “قاسم الأعرجي” (في 7 ديسمبر 2022)، أن شعار حكومة رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني” (المشكّلة حديثاً في أكتوبر 2022) الانفتاح على الدول العربية والجوار، والتركيز على لغة الحوار وحل المشكلات بالطرق الدبلوماسية، وبالتالي ترى الكويت أنه يمكن إحداث خرق في ذلك الملف.

يوفر التوجه العراقي الجديد للكويت أرضية يمكن البناء عليها لاستكمال ترسيم الحدود البحرية، أو على أقل تقدير تثبيت تنفيذ اتفاقية “خور عبدالله” لتنظيم الملاحة البحرية بين البلدين (وُقعت في عام 2012)، والتي ظهرت تيارات داخلية في العراق تُندد بها وتضغط لعدم العمل بها، وفي السياق ذاته سعى العراق مؤخراً لإبراز رفضها التحركات الكويتية في مياهها الإقليمية، وهو ما دلل عليه قيام ثلاث قطع بحرية عراقية بتجاوز المياه الإقليمية لدولة الكويت في مطلع ديسمبر 2022، وبالتالي هناك حاجة ماسة من الكويت لترسيم الحدود البحرية لتجنّب اندلاع أي توترات مستقبلية مع العراق التي قد توفر مواردها النفطية ومشاريع نهضتها الطموحة في استعادة دورها كلاعب إقليمي، مما يعقد من المفاوضات معها بشان ترسيم الحدود.

3- فتح ملف ترسيم الحدود البحرية الإيرانية/العراقية: تشهد منطقة الشرق الأوسط تحركات متعددة لترسيم الحدود البحرية بين دولها، وبما يمكن الدول من استغلال مواردها الطبيعية وضمان سيطرتها على مياهها الإقليمية، وهناك بعض النماذج الناجحة التي استطاعت تسوية ذلك الملف، كان آخرها لبنان وإسرائيل. وفي هذا الإطار، تطمح الكويت لدخول ذلك المعترك، ولا سيما مع وجود تحركات مشابهة من العراق لمحاولة فتح ملف ترسيم الحدود البحرية مع إيران، وهو ما دلل عليه التالي:

إعلان مكتب مستشار الأمن القومي العراقي “قاسم الأعرجي” (في 16 فبراير 2022)، ترأسه ورشة عمل تضم عدداً من الخبراء لبحث اتفاقية الجزائر 1975 لترسيم الحدود البحرية العراقية/الإيرانية، حيث تم الاتفاق على عقد اجتماعات أخرى للتباحث حول ذلك الملف.

تعثر المفاوضات بين إيران والعراق بشأن ترسيم الحدود في مارس 2021، بعد مطالبة الأخيرة بتعديل بعض بنود اتفاقية الجزائر.

لا يُستبعد أن يكون سعي الكويت لإعادة فتح ملف ترسيم الحدود البحرية مع العراق يأتي في ضوء ترسيم الحدود البحرية في نطاق أوسع، وبما يدفع إيران للدخول على خط التفاوض مع البلدين لترسيم الحدود البحرية بشكل يؤمن مصالح الدول الثلاث، خاصة وأن الترسيم قد يقدم مقاربة تتعلق بالتفاوض في قضايا أخرى، مثل: الحقول النفطية والغازية المشتركة، وتعظيم الاستفادة منها، وضمان انسياب التجارة، وهي مقومات لتعاون إقليمي يصبّ في صالح ضفتي منطقة الخليج العربي.

4- الاستفادة من التحولات الدولية تجاه منطقة الخليج: حظيت دول الخليج باهتمام كبير خلال عام 2022 من كافة الدول الكبرى، على وقع التوترات الجيوسياسية الناتجة عن الحرب الروسية/الأوكرانية وتداعياتها، ويدلل على ذلك عقدقمة الرياض الخليجية الصينية للتعاون والتنمية في ديسمبر 2022، وكذا اجتماع الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بدول الخليج في يوليو 2022، واجتماع خليجي أوروبي في فبراير 2022، كما ظهر اهتمام بزيادة عقد اتفاقات تجارية حرة مع دول الخليج ككتلة، مثل التي مع بريطانيا والصين والهند وكوريا الجنوبية، الأمر الذي يمكن توظيفه لدفع تلك الدول للضغط على العراق لقبول التفاوض مع الكويت لاستكمال ترسيم الحدود البحرية، لا سيما وأن هناك توجهاً لزيادة ربط مصالح تلك الدول بنظيرتها الخليجية.

فرصة سانحة

إنّ تزايد التضامن الخليجي خلال الفترة الأخيرة يوفر دعماً صلباً للكويت لإعادة فتح ملف ترسيم الحدود البحرية في الخليج العربي، وذلك في ضوء توجه عالمي يستهدف زيادة الاعتماد على دول الخليج في توفير إمدادات الطاقة بكافة أنواعها، ويصاحب ذلك بالضرورة استقرار المياه الإقليمية والمنافذ البحرية التي يمكن من خلالها تصدير تلك الإمدادات، كما أن ذلك الترسيم سيصبّ في صالح الدول الأطراف، ويُعزز بالضرورة التعاون الإقليمي الذي تربو إليه المنطقة، وهي فرصة على العراق توظيفها لضمان دمجها في المنطقة العربية، مما يرجح دفع الكويت لزيادة الزخم حول ذلك الملف خلال الفترة المقبلة، على أن يتم التمهيد لترسيم الحدود البحرية عبر عقد اتفاقات جديدة لضمان حرية الملاحة، وفي الوقت نفسه تشبيك المصالح العراقية الكويتية، وصولاً إلى تعيين حدود بحرية تقضي على فرص اندلاع أي توترات حدودية.