لماذا تُعارض إسرائيل إحياء الاتفاق النووي الإيراني؟

عزل طهران:

لماذا تُعارض إسرائيل إحياء الاتفاق النووي الإيراني؟



مع تسلم إيران لـ”النص النهائي” لإحياء الاتفاق النووي الإيراني من قبل الوسطاء الأوروبيين سارعت إسرائيل إلى تكثيف تحركاتها من أجل منع الوصول إلى اتفاق جديد يهدد مصالحها، حيث تحرص على استمرار عزلة إيران دولياً وإقليمياً ومنع عودة إدماجها في النظام الدولي، بجانب المخاوف من المكاسب الاقتصادية التي ستحققها طهران ورفع العقوبات المفروضة عليها. ومن أجل الحيلولة للوصول إلى اتفاق جديد تتحرك إسرائيل عبر عدة مسارات دبلوماسية وأمنية واستخباراتية وعسكرية، وحتى في حال نجاح التوصل إلى اتفاق بين طهران والقوى الكبرى، فستواصل إسرائيل استهداف طهران عبر عدة مستويات في محاولة لإضعافها داخليّاً، وكذلك العمل على إضعاف وكلاء إيران من الجماعات المسلحة بالتعاون مع دول المنطقة لحرمانها من ورقة ضغط فاعلة.

تسلمت إيران “النص النهائي” من الوسطاء الأوروبيين بشأن عودة إحياء الاتفاق النووي مع القوى الكبرى لعام 2015، لكن على الجانب الآخر تبذل إسرائيل قصارى جهدها وتحشد سياسيّاً وأمنيّاً واستخباراتيّاً لإحباط التوصل لاتفاق جديد بغض النظر عن شروطه، وما إذا كان أفضل من الاتفاق السابق أم لا، فكل ما يسيطر عليها المخاوف من عودة إدماج إيران في النظام الدولي بشكل عام ومع دول الجوار بشكل خاص.

بنود الصفقة

كانت البداية مع انتشار تسريبات عدة بشأن “النص النهائي” الذي قدمه الوسيط الأوروبي (بريطانيا، ألمانيا، فرنسا) مع إيران، إلا أنهم نفوا تسريب أي بنود من جهتهم، كما نفت الولايات المتحدة الأمريكية من جانبها تقديم أي تنازلات لإيران في النص الجديد. وفي المقابل، كشف موقع “إیران إنترناشیونال” التابع للمعارضة الإيرانية مؤخراً، عن بعض بنود الصفقة ومنها:

1- الموافقة على بيع إيران 50 مليون برميل نفط خلال 120 يوماً بأسعار السوق الحالية.

2- الإفراج عن أصول إيرانية بقيمة 7 مليارات دولار مجمدة في كوريا الجنوبية.

3- موافقة الولايات المتحدة على رفع العقوبات عن 17 مصرفاً و150 مؤسسة اقتصادية إيرانية في أول يوم بعد الاتفاق.

4- فرض غرامة مالية على الولايات المتحدة في حال انسحابها مجدداً من الاتفاق، كما فعل الرئيس السابق “دونالد ترامب”.

5- بعد اليوم الأول للاتفاق تتراجع إيران تدريجيّاً عن خطواتها النووية.

وبخلاف هذه البنود طالبت إيران بضمانات أمنية تتعلق بالأبعاد العسكرية المحتملة للبرنامج النووي وضمانات اقتصادية لصالحها من إحياء الاتفاق، ومن بين الضمانات الموافقة على طلب إيران بإغلاق الوكالة الدولية للطاقة لقضية تفتيش ثلاثة مواقع نووية سرية لم تعلن عنها إيران من قبل وبها يورانيوم مخصب؛ إلا أن الثلاثي الأوروبي أكد أن قضية الضمانات أمور فنية تخص طهران وحدها والوكالة الدولية للطاقة الذرية وليس لها صلة بالاتفاق النووي.

كما طالبت إيران بضمانات للاستفادة من الفوائد الاقتصادية من الاتفاق النووي، ومن بينها عدم انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق مرة ثانية، وضمان حماية الشركات الأجنبية المتعاقدة مع طهران من العقوبات المستقبلية المحتملة، حال خرجت واشنطن من الاتفاق، لكن هذا الطلب لم يتم حسمه بعد، رغم أن الاتحاد الأوروبي أكد أنه في حالة الانسحاب فإن الشركات الأجنبية التي دخلت مع إيران تعاملات لن تخضع لعقوبات أمريكية لمدة عام.

مخاوف إسرائيلية

1- عودة إدماج إيران في النظام الدولي: تتخوف إسرائيل من أن أي اتفاق جديد بشأن البرنامج النووي الإيراني، سيسمح لطهران بالعودة إلى النظام الدولي وإقامة علاقات سياسية ودبلوماسية أوسع خاصة مع دول أوروبا بجانب دول المنطقة، فقد ساعدت عزلة إيران لعقود في عرقلة برنامجها النووي بشكل كبير إلى جانب إضعاف نظامها السياسي ووضع ضغوط اقتصادية عليها.

2- استغلال إيران أزمة الطاقة العالمية وتحقيق وفرة نفطية: منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير الماضي، شهدت أسعار الطاقة ارتفاعاً غير مسبوق، فقد تخطت أسعار النفط الخام 100 دولار للبرميل وما زالت مستمرة صعوداً وهبوطاً بشكل طفيف حول هذا الرقم، وكذلك أسعار الغاز الطبيعي التي تمثل أهمية استراتيجية لأوروبا، فقد بلغت أسعار غاز “تي تي إف” الهولندي (الغاز الطبيعي المرجعي في أوروبا) مارس الماضي 345 يورو للميجاواط/ساعة وهو رقم قياسي، رغم انخفاضه لاحقاً إلى ما دون 300 يورو.

وتخشى إسرائيل من استغلال إيران هذه الأزمة وطرح نفسها كبديل آمن للنفط والغاز الروسيين لأوروبا وبأسعار معقولة؛ حيث يعتبر ملف الطاقة أحد الأسباب التي ساهمت بالفعل في سعي أوروبا لإحياء الاتفاق النووي مع طهران؛ إذ يبلغ إنتاجها النفطي حوالي 4 ملايين برميل يوميّاً، وفي حال رفع العقوبات وعودة الشركات الأجنبية للاستثمار فسيزداد هذا الرقم كثيراً، فيما تبلغ الطاقة الإنتاجية للغاز الطبيعي مليار متر مكعب يوميّاً والذي تمتلك منه مخزوناً يُقدر بـ34 تريليون متر مكعب لتحتل بذلك المرتبة الثانية بعد روسيا.

في هذا الصدد، ترغب إسرائيل في منع تحول إيران إلى مُصدِّر رئيسي للغاز لأوروبا مستقبلاً؛ إذ تسعى لاستغلال هذا الأمر عبر اكتشافات شرق المتوسط والحقول الخاضعة تحت سيطرتها بجانب تحالفاتها مع قبرص واليونان بشأن الطاقة، وقد يتأثر الدعم الذي تحصل عليه إسرائيل من أوروبا فيما يتعلق بتطوير ملف الغاز وخط أنابيب “إيست ميد” إن غطت طهران حاجة أوروبا من الغاز بأسعار مناسبة.

3 – تقوية نظام المرشد ومنحه شرعية أكبر: مثّل التوصل للاتفاق النووي في عام 2015، دفعة قوية لطهران وجدد الثقة في النظام الإيراني وعلى رأسه المرشد الأعلى للثورة “علي خامنئي”، حيث روّج النظام وقتها لهذا الاتفاق وأهميته التي ستنهي عزلة إيران وستزيد من حجم الاستثمارات الأجنبية وتفتح الأبواب أمام الصادرات الإيرانية وعلى رأسها النفط والغاز.

وقد عبّر عن هذه المخاوف، وزير الأمن الإسرائيلي “بيني غانتس” في تصريحات لصحيفة “يديعوت أحرونوت” في الثامن عشر من أغسطس الجاري، مؤكداً أن إيران بالنسبة لإسرائيل مشكلة عالمية وإقليمية وتشكل خطراً على إسرائيل؛ حيث تتمتع باقتصاد كبير، وتحكمها نخبة دينية، ومع اقترابهم من قدرات نووية فإن هذا سيكون خطراً على دولتهم والعالم.

4- ازدياد نفوذ الحرس الثوري الإيراني: من بين الشروط التي وضعتها إيران للعودة إلى الاتفاق النووي، إلغاء الحرس الثوري من قوائم الإرهاب الأمريكية، إلا أن هذا الشرط ردت عليه الدول الأوروبية المشاركة في مفاوضات إحياء الاتفاق بأنه يتطلب مفاوضات خاصة أخرى بين واشنطن وطهران، لكن الأخيرة تتمسك بموقفها.

وتخشى إسرائيل من نجاح إيران في هذا البند، والذي سيزيد من قوة وتحركات الحرس في الخارج والداخل، سواء عبر أذرعه الاقتصادية واستثماراته أو عبر زيادة دعم وكلاء إيران من الجماعات المسلحة في دول المنطقة والتي تمثل تهديداً أيضاً للمصالح الإسرائيلية.

آليات التحرك

بعد توصل القوى الكبرى وإيران إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي لطهران عام 2015، لم تتوقف إسرائيل عن محاولات إجهاض الاتفاق أو حتى تعديله، حتى جاء الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” وأعلن في مايو 2018 انسحاب واشنطن منه، ومع مجيء إدارة الرئيس “جو بايدن” إلى البيت الأبيض عاد لفتح قنوات اتصال مع طهران من أجل إحياء الاتفاق النووي مجدداً، الأمر الذي أثار مخاوف إسرائيل، دفعتها لتتحرك في عدة مسارات لإجهاض تلك المحاولة، ومن بينها:

1- الحشد السياسي والدبلوماسي للتراجع عن الاتفاق: تحشد إسرائيل سياسيّاً ودبلوماسيَّا، محاولة بذلك التأثير على دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من أجل التراجع عن الاتفاق أو وضع شروط قاسية بحق طهران. فقد طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي “يائير لبيد”، خلال اتصال هاتفي مع المستشار الألماني “أولاف شولتس”، في الثامن عشر من أغسطس الجاري، بضرورة نقل رسالة حادة وواضحة من أوروبا مفادها عدم تقديم المزيد من التنازلات للإيرانيين. وأكد “لبيد” معارضة إسرائيل إحياء الاتفاق النووي، من خلال رفع العقوبات عن إيران مقابل خفض أنشطتها النووية وضمان سلمية برنامجها.

أيضاً تسعى إسرائيل لحشد دول الجوار إلى جانبها وخاصة الدول العربية التي طبعت معها العلاقات، من أجل معارضة الاتفاق، مستغلة التصعيد الإيراني في هذا الشأن ضد الدول العربية، فقد صرح قائد القوة البحرية للحرس الثوري الإيراني “علي رضا تنكسيري” في التاسع عشر من أغسطس الجاري بأن التعاون مع إسرائيل يهدد الأمن والاستقرار في منطقة الخليج، محذراً الدول التي توفر الأرضية للتدخل الأجنبي وحضور الأجانب وتعطيها قاعدة وأرضاً ومجالاً لتشكيل تحالف عسكري ضد دول المنطقة.

كما سعت إسرائيل خلال زيارة “جو بايدن” إلى المنطقة وزيارته لإسرائيل وفلسطين ومشاركته في “قمة جدة للأمن والتنمية” إلى تشكيل تحالف عسكري من دول المنطقة تكون طرفاً فيه يستهدف طهران في المقام الأول، إلا أن مخططها لم ينجح.

2- اغتيال علماء وشخصيات إيرانية بارزة: عملت إسرائيل على اغتيال علماء بارزين في إيران خاصة في مجال الطاقة النووية، بجانب مسؤولين أمنيين وقادة في الحرس الثوري، وذلك ضمن مساعيها لاستفزاز طهران ومنعها من إكمال أي اتفاق مع الغرب أو تطوير برنامجها النووي في حال قررت المضيّ قدماً فيه.

وفي يونيو 2022، كشفت مصادر إيرانية أن إسرائيل ربما تسببت بمقتل العالمين النوويين عن طريق السم وهما “أيوب انتظاري” مهندس طيران يعمل في مركز أبحاث عسكري، و”كامران آقا مُلّائي” وهو باحث جيولوجي. وفي مايو من العام ذاته قُتل العقيد في الحرس الثوري “حسن خدايي صياد” أمام منزله في طهران، ليضاف إلى قائمة القتلى الذين اغتالتهم إسرائيل، ومن بينهم أيضاً عراب البرنامج النووي الإيراني “محسن فخري زاده” الذي اغتِيل داخل إيران في 2020.

3- استهداف المليشيات الإيرانية في سوريا: تستهدف إسرائيل عبر غارات جوية متكررة داخل سوريا أهدافاً إيرانية وكذلك المليشيات التابعة لها أو شحنات أسلحة إيرانية متجهة إلى حزب الله اللبناني عن طريق سوريا، وهذه الغارات تتم بشكل دائم وعلني، وكان آخرها غارة في 14 أغسطس 2022، على مدينة “طرطوس” الساحلية أسفرت عن مقتل ثلاثة عسكريين سوريين وإصابة ثلاثة آخرين، لكن مصادر غربية أكدت أن الضربات استهدفت قاعدة إيرانية قرب قرية “أبو عفصة” جنوبي طرطوس إلى جانب محطة رادار ودفاع جوي قريبة. وفي يوليو 2022، شنت إسرائيل أكثر من ثلاث غارات طالت أهدافاً إيرانية من بينها ضرب مركز لتصنيع الطائرات المسيرة وقاعدة للقوات الإيرانية وحزب الله اللبناني في ضواحي “السيدة زينب” جنوب دمشق.

4- شن هجمات إلكترونية ضد أهداف إيرانية حساسة: تشن إسرائيل هجمات سيبرانية بشكل متكرر ضد أهداف إيرانية حساسة ومن بينها المنشآت النووية. ففي أبريل 2021، استهدف الموساد الإسرائيلي مفاعل “نطنز” لتخصيب اليورانيوم ضمن هجوم إلكتروني دمر نظام الطاقة الداخلي الذي يزود أجهزة الطرد المركزي داخل المفاعل، وقد اعتبرت الخارجية الإيرانية وقتها أن الهجوم “إرهاب نووي” وهددت بالانتقام من الهجوم الذي سبب أضراراً جسيمة يتطلب إصلاحها تسعة أشهر على الأقل.

وفي المقابل، تتعرض إسرائيل لهجمات سيبرانية إيرانية، وهو ما دفعها للعمل على تشكيل ما يُعرف بـ”القبة السيبرانية” في محاكاة لنظام الدفاع الجوي (القبة الحديدة)، ويهدف لرصد الهجمات السيبرانية المحتملة عبر آليات استباقية تقلل من حدة ووتيرة الهجمات السيبرانية، وقد أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “نفتالي بينيت” في الثامن والعشرين من يونيو 2022 أن الردع السيبراني سيكون مثل الردع النووي.

ختاماً، يمكن القول إن إسرائيل لن تتوقف عن محاولات عرقلة التوصل إلى اتفاق بين إيران والقوى الكبرى، ليس فقط بشأن البرنامج النووي ولكن بشأن باقي الملفات؛ فالأفضل لها أن تظل إيران محاصرة ومعزولة، سواء إقليميّاً أو دوليّاً، وأن تتحول طهران إلى العدو الأول لدول المنطقة العربية، لتخرج تل أبيب من هذا التصنيف الذي ظلت فيه منذ نشأتها بدعم غربي في المنطقة وحتى اليوم، فقد كان أحد أسباب التطبيع معها الخطر الذي تمثله طهران على دول المنطقة.

وحتى في حال نجاح التوصل إلى اتفاق بين طهران والقوى الكبرى، فستواصل إسرائيل استهداف طهران على الأقل استخباراتيّاً وأمنيّاً في محاولة لإضعافها داخليّاً، بجانب السعي لمنع الشركات الكبرى من الاستثمار في طهران، وكذلك العمل على إضعاف وكلاء إيران من الجماعات المسلحة بالتعاون مع دول المنطقة لحرمانها من ورقة ضغط مهمة وفاعلة.