لماذا تلتزم تركيا سياسة محايدة تجاه الأزمة العراقية؟ 

دوافع مختلفة:

لماذا تلتزم تركيا سياسة محايدة تجاه الأزمة العراقية؟ 



يرتبط الموقف التركي المحايد إزاء الأزمة السياسية العراقية بمتغيرات عديدة، يتمثل أبرزها في تصاعد تأثير المصالح الاقتصادية، والرغبة في تأمين الحضور التركي العسكري والسياسي داخل العراق وتقليص فرص استهدافه، وتوظيف الأزمة لتكريس العداء لإيران التي تراهن على المليشيات الشيعية المسلحة وتوسيع نطاق الحضور في إقليم كردستان.

لم تُسفر الجهود التي بذلتها قوى محلية وإقليمية عن الوصول إلى تسوية للأزمة السياسية التي يشهدها العراق منذ 10 أكتوبر الماضي، على نحو بدا جلياً في استمرار العقبات التي ما زالت تحول دون تشكيل الحكومة العراقية. وتُعد تركيا إحدى القوى الإقليمية التي تهتم بتفاعلات الداخل العراقي، وتسعى إلى تأمين بقاء الأطراف القريبة منها في المشهد السياسي؛ إلا أنّ السعي التركي تجاه الأزمة اتسم بالحياد الإيجابي، والانخراط المحسوب في الأزمة، حيث تحرص تركيا بشكل لافت في الوقت الحالي على اتخاذ جملة من التدابير التي تستهدف حماية وتأمين نفوذها ومصالحها في العراق من المخاطر التي باتت تحدق بهذا الحضور، خاصةً من جانب المليشيات الموالية لإيران. ويُشار -في هذا الصدد- إلى أن آخر أبرز التهديدات الموجهة للحضور التركي كان الهجوم الذي استهدف القنصلية التركية في الموصل في 27 يوليو الفائت، والهجوم الذي سبقه بيوم واحد واستهدف قاعدة زليكان التركية في بعشيقة.

مواقف متوازنة

اللافت -في هذا السياق- هو أن تصاعد حالة التوتر بين أنقرة وبغداد بشأن الملفات الخلافية، فضلاً عن استهداف المصالح التركية في العراق؛ لم يدفع تركيا إلى الاستثمار في الأزمة السياسية العراقية من خلال الانحياز إلى الأطراف السنية القريبة منها، حيث حرصت أنقرة على التزام الحياد تجاه تطورات الأزمة في الداخل العراقي. ومن هنا، فإن اتجاهات عديدة تشير إلى أن ذلك ربما يرتبط بحسابات تركيا ومحاولاتها تجنب التورط في تصعيد أو أزمة جديدة تضاف إلى القضايا الخلافية مع بغداد.

وكشفت مؤشرات عدة عن حرص أنقرة على التزام الحياد تجاه الأزمة العراقية: أولها، تبني سياسة مرنة تجاه اعتصامات التيار الصدري في المنطقة الخضراء التي بدأت في 28 أغسطس الماضي، وانتهت بمواجهات عنيفة بين الصدريين وفصائل شيعية أخرى موالية لإيران وقوى أمنية. ويشار إلى أن تركيا اكتفت بموقف رمزي، حيث أعربت وزارة الخارجية التركية في بيان لها في 30 أغسطس الماضي، عن قلقها إزاء أعمال العنف التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد، والتي أدت إلى سقوط قتلى وجرحى، وحذرت رعايا بلادها من السفر إلى بغداد. وأضاف البيان أن “التطورات التي شهدتها العراق في الآونة الأخيرة تُهدد وحدتها واستقرارها”، وتابع أن “استقرار وأمن العراق مهم جداً بالنسبة لتركيا”، داعياً كافة الأطراف إلى ضبط النفس.

وثانيها، تعاطي تركيا بهدوء مع مساعي بعض القوى العراقية المناهضة لها لتوظيف انخراطها في شمال العراق لتشويه صورتها، خاصة بعد اتهام أنقرة، في 21 يوليو الفائت، بالهجوم على منتجع دهوك السياحي في إقليم كردستان. وقد نجحت تركيا في استيعاب ردود الفعل العراقية تجاه الحادث، عندما طالبت بتشكيل لجنة تحقيق مشتركة لكشف ملابسات الحادث. كما اعتبرت أن التدخل العسكري في العراق يأتي في سياق جهودها لمكافحة الإرهاب، وأشارت إلى أن هجوم دهوك هو “صنيعة الكردستاني الذي بات يبحث عن مخرج لينقذ نفسه بعد نجاحات تركيا في تفكيك خلاياه، مما دفعه لتبني طرق لا أخلاقية مثل الأكاذيب والتضليل”.

وثالثها، حرص أنقرة منذ اندلاع الأزمة العراقية عشية الانتخابات التشريعية، في 10 أكتوبر 2021، على تحييد تأثير القضايا الخلافية على قوة العلاقات الاستراتيجية مع بغداد، وهو الأمر الذي ساهم في ضبط ردود فعل خصومها المحليين إزاء وجودها العسكري وتدخلاتها المستمرة في شمال العراق.

اعتبارات رئيسية

ثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء عدم انخراط أنقرة في الأزمة السياسية العراقية، وعدم الانحياز إلى أي من أطرافها، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- تزايد تأثير المصالح الاقتصادية: على الرغم من وجود ملفات خلافية رئيسية، وخاصة الأمن والمياه، كانت لها ارتدادات عكسية على مسارات العلاقات بين تركيا والعراق؛ إلا أن البلدين يؤسسان شراكات أوسع تتعلق بالتصدير والسياحة والاستثمار، حيث وصل معدل التبادل التجاري إلى 19.5 مليار دولار في عام 2021 وفقاً لتقديرات تركية، فضلاً عن اعتماد إقليم كردستان العراق على ميناء جيهان التركي في تصدير منتجاته البترولية للخارج. 

وتدرك أنقرة أهمية الحياد تجاه أزمات العراق السياسية لضمان تأمين الشركات التركية العاملة في الاستثمارات والتي يصل عددها إلى نحو 2000 شركة. ويشار -في هذا الصدد- أيضاً إلى أن تركيا حصلت، في 9 أغسطس الجاري، على مناقصة إعادة تأهيل وتشغيل مطار الموصل، وهي صفقة تكتسب أولوية استراتيجية وتاريخية لتركيا التي تُبدي اهتماماً خاصاً بمنطقة الموصل تحديداً.

2- الحرص على احتواء الخصوم المحليين: حاولت تركيا توجيه رسالة إيجابية للقوى السياسية المحلية المناوئة لها في الساحة العراقية، وتجلى ذلك من خلال انفتاح تركيا على مختلف هذه القوى، حيث التقى السفير التركي لدى بغداد علي رضا كوناي، في 23 مايو الماضي، رئيس دولة “ائتلاف القانون” نوري المالكي. كما التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بكل من رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي وزعيم تحالف “عزم” خميس الخنجر في إسطنبول، في 26 فبراير الماضي، للتشاور حول مآلات الأزمة في العراق.

كما تبنت أنقرة موقفاً متوازناً عشية اقتحام محتجين عراقيين الساحة الخضراء، مطلع أغسطس الجاري، وأعربت الخارجية التركية، في بيان لها، عن أملها في “تشكيل حكومة شاملة وذات تمثيل واسع دون إضاعة مزيد من الوقت بما يلبي تطلعات الشعب العراقي”، وأضاف البيان: “نحن نحترم حق العراقيين في التعبير عن آرائهم وتطلعاتهم من خلال الوسائل الديمقراطية”.

بالتوازي مع ذلك، تجاوبت تركيا مع وصول أزمة الداخل العراقي للذروة، مع بعض مطالب بغداد بشأن الملفات الخلافية لتحييد ضغوط الخصوم على النفوذ التركي في العراق، وظهر ذلك في تعهد تركيا، على سبيل المثال، في 16 يوليو الفائت، بتحسين التدفقات المائية إلى العراق، وذلك خلال اجتماع افتراضي بمشاركة وفدين من البلدين.

3- تكريس تصاعد العداء لإيران: لا ينفصل الحياد التركي تجاه الأزمة العراقية عن رغبة أنقرة في توظيف الاحتقانات العراقية -سنية وشيعية- تجاه المليشيات الموالية لإيران، وإفساح المجال أمام مشروع الصدر الذي يستهدف تعزيز التعاون مع حلفاء من القوى السنية والحزب الديمقراطي الكردستاني، لتشكيل حكومة بعيدة عن المحاصصة السياسية، وهو ما يعني تراجع حضور إيران في العراق، وتقزيم القوى المرتبطة بها. وبالتالي فإن عدم الانخراط التركي في الأزمة العراقية أو الانحياز إلى أحد أطرافها في هذا التوقيت، قد يساعد في استمرار تكريس حالة العداء العراقي تجاه طهران، باعتبارها الطرف الإقليمي الأكثر انغماساً وانخراطاً في الأزمة العراقية الراهنة. 

وتراهن تركيا على الأزمة العراقية الراهنة في تقليص النفوذ الإيراني بالعراق، خاصة بعد اتجاه طهران إلى التعويل على المليشيات المسلحة في العراق لتعزيز نفوذها. وقد صعدت تلك الجماعات من الهجمات ضد المصالح التركية داخل العراق خلال الفترة الماضية.

4- السعي لتأمين الوجود في إقليم كردستان: تدرك تركيا أهمية استمرار وتأمين قواتها العسكرية شمال العراق، خاصة في ظل تصاعد المواجهات مع حزب العمال الكردستاني. ولذلك، فإنها ترى أن الحياد تجاه تطورات الأزمة في العراق يمنحها فرصاً أكبر لتنفيذ خططها شمال العراق، والتي تتوازى أيضاً مع عملياتها العسكرية في شمال شرق سوريا، حيث تسعى للحصول على مكاسب استراتيجية من خلال تعزيز وجودها العسكري في الدولتين.

توجه مستمر

ختاماً، يمكن القول إن تركيا حرصت على تبني سياسة مرنة وحيادية في آن واحد تجاه الأزمة العراقية، وهو ما تعكسه التصريحات والبيانات الرسمية التركية تجاه تطورات الداخل العراقي. ولذا فإن الجهود التركية تجاه العراق يبدو أنها سوف تتواصل خلال المرحلة القادمة، سواء عبر التأكيد على وحدة العراق، وضرورة التواصل بين الفرقاء، أو من خلال التحركات الدبلوماسية المتوازنة تجاه أطراف الأزمة، على أساس أن ذلك يمثل المدخل الرئيسي الذي يمكن من خلاله، في رؤية تركيا، تأمين مصالحها، وحل المعضلة السياسية في البلاد.