لماذا تركز أوروبا على “المفاوضات الإقليمية” مع إيران؟

الصفقة المأزومة:

لماذا تركز أوروبا على “المفاوضات الإقليمية” مع إيران؟



اقتربت مواقف الدول الأوروبية، إلى حد كبير، من السياسة التي تتبعها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجاه إيران، وهو ما لا يمكن تفسيره فقط في ضوء تباين تلك السياسة مع تلك التي سبق أن تبنتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، وقوبلت بتحفظات من جانب الأولى، وإنما أيضاً في ضوء التداعيات العكسية التي فرضتها إجراءات إيران التصعيدية، على المستويات المختلفة، لاسيما النووية والإقليمية. وقد بدا لافتاً في الفترة الأخيرة أن الدول الأوروبية، لاسيما فرنسا، أخذت زمام المبادرة فيما يتعلق بالدعوة إلى إجراء “مفاوضات إقليمية” مع إيران تشمل تدخلاتها في المنطقة وبرنامج الصواريخ الباليستية، في الوقت الذي بدت الإدارة الأمريكية نفسها حريصة في الوقت الحالي على منح الأولوية للاتفاق النووي، الذي يواجه اختباراً صعباً بفعل اقتراب إيران من المرحلة التي يمكن أن يصبح معها الاتفاق بلا معنى أو تأثير حقيقي على الأرض.

وتكشف التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان، في 2 أكتوبر الجاري، عن أن ثمة اتجاهاً أوروبياً جديداً برز خلال الآونة الأخيرة ويدعو إلى ضرورة “أقلمة” المفاوضات مع إيران، أى عدم حصرها في الجانب الفني للبرنامج النووي الإيراني، وتوسيع نطاقها لتشمل الأدوار التي تقوم بها إيران في الصراعات المختلفة بالمنطقة، فضلاً عن برنامجها للصواريخ الباليستية. ففي هذا السياق، قال لودريان أن “المفاوضات الإقليمية مع طهران يجب أن تشمل أنشطتها الصاروخية”. وقد عبّر عن هذا الاتجاه أيضاً الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن المشترك بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في 24 سبتمبر الفائت، عندما قال أن “الجهود الجارية للعودة إلى خطة العمل المشتركة الشاملة هى مجرد خطوة أولى لمعالجة ملفات أخرى تتعلق بتدخلات طهران في الشئون الداخلية للدول الأخرى”. لكن ربما كان بوريل أكثر تحديداً في هذا السياق من لودريان، عندما حرص على تأكيد أن ذلك لن يتم في وقت واحد، وأن آلية “الخطوة خطوة” قد تكون هى الأنسب، في رؤيته، لتسوية الخلافات مع إيران، بما يعني منح الأولوية للوصول إلى صفقة تعزز استمرار العمل بالاتفاق النووي، ثم إجراء “مزيد من المناقشات”- حسب وصفه- حول مسائل أخرى كثيرة.

دوافع مختلفة

يمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة دفعت الدول الأوروبية إلى إعادة تبني هذا التوجه من جديد، يتمثل أبرزها في:

1- تجنب انهيار الاتفاق النووي مجدداً: ترى الدول الأوروبية أن الوصول إلى صفقة جديدة حول الاتفاق النووي قد لا يضمن في النهاية استمرار العمل بهذا الاتفاق، باعتبار أن عدم دفع إيران إلى تغيير سياستها في الملفات الخلافية الأخرى كفيل بتأجيج حالة عدم الاستقرار على المستويات المختلفة في المنطقة، في ظل الأدوار التي تقوم بها إيران داخل دول الصراعات على غرار اليمن وسوريا والعراق ولبنان، وذلك على عكس الأهداف التي كان من المفترض أن يعمل الاتفاق النووي على تحقيقها.

2- تقييد تحركات التيار المتشدد في طهران: ربما تعتبر بعض الدول الأوروبية أن التيار المتشدد في طهران، الذي تصاعد نفوذه عقب وصول الرئيس إبراهيم رئيسي إلى منصبه الجديد، سوف يسعى إلى استغلال أى صفقة جديدة لتأكيد أنها لا تفرض قيوداً على سياسة إيران في الملفات الأخرى. وقد يدفعه ذلك إلى ممارسة ضغوط من أجل اتخاذ خطوات استفزازية في هذا الصدد. وقد كان لافتاً، على سبيل المثال، أن هذا التيار سبق أن تبنى التوجه نفسه عقب الإعلان عن الوصول للاتفاق النووي في 14 يوليو 2015. فبعد أربعة أيام فقط من ذلك، كان المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي حريصاً على تأكيد أن “هذا الاتفاق لن يؤثر على دعم إيران لأصدقائها”.

3- احتواء التصعيد بين طهران وتل أبيب: رغم أن اتجاهات أوروبية عديدة تعتبر أن الوصول لصفقة جديدة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي ربما يساعد على تجنب نشوب حرب جديدة في المنطقة، إلا أن ذلك لا ينفي أن استمرار الملفات الأخرى- الإقليمية والصاروخية- دون حسم كفيل بعدم استبعاد هذا المسار. إذ أن أطرافاً عديدة تبدي قلقاً إزاء استمرار دعم إيران لحلفائها في المنطقة وتطوير برنامجها الصاروخي، على غرار إسرائيل، التي ما زالت حريصة على شن ضربات عسكرية متتالية ضد مواقع تابعة لإيران وحزب الله والميليشيات الموالية لها في سوريا من أجل “تحييد” التهديدات التي يمكن أن يفرضها اقتراب الوجود العسكري الإيراني من حدودها، فضلاً عن تنفيذ عمليات أمنية تستهدف البرنامجين الصاروخي والنووي داخل إيران، وهى عمليات قد يدفع استمرارها إيران إلى رفع مستوى التصعيد. ورغم أن ذلك حدث بالفعل في الفترة الماضية في إطار توجيه رسائل متبادلة بين طهران وتل أبيب امتدت حتى إلى ما يسمى بـ”حرب السفن”، فإنه لا يوجد من المؤشرات ما يمكن من خلالها ترجيح عدم تطور المواجهة الحالية إلى حرب واسعة النطاق.

4- تقليص التهديدات الإيرانية لأوروبا: تكتسب تهديدات إيران المتكررة بإمكانية الاستناد إلى قدراتها الصاروخية في الرد على خصومها، أهمية خاصة من جانب الدول الأوروبية، لاسيما أنها قد لا تكون بعيدة عن مرمى تلك الصواريخ. وقد سبق أن وجّهت إيران تهديدات مباشرة للأخيرة بالفعل. ففي 25 نوفمبر 2017، قال نائب قائد الحرس الثوري حسين سلامي (قائد الحرس حالياً): “حتى الآن نشعر أن أوروبا لا تمثل تهديداً لنا، ولذلك لم نزد مدى صواريخنا، ولكن إذا كانت أوروبا تريد أن تتحول إلى تهديد فسنزيد مدى صواريخنا”. وقد نشرت مجلة “The National Interest” الأمريكية مقالاً للكاتب David Axe، بعنوان “Iran has a Case of Missile Madness”، في 10 سبتمبر الفائت، أشار فيه إلى أن إيران لديها ترسانة من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى ما يمكن من خلالها تنفيذ هجمات ضد إسرائيل وحتى جنوب شرقى أوروبا.

5- دعم الاستقرار في دول الأزمات: تشارك الدول الأوروبية في الجهود المبذولة للوصول إلى تسويات للأزمات الإقليمية المختلفة، لاسيما في دول الصراعات، وهو ما يعود إلى اعتبارات عديدة، ينصرف أهمها إلى أن تلك الأزمات كانت سبباً رئيسياً في تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية التي وصلت إلى عواصم أوروبية عديدة، فضلاً عن تدفق موجات من اللاجئين إلى تلك الدول خلال الأعوام الأخيرة، على نحو تسبب في أزمات على كافة المستويات. ويبرز في هذا السياق الدور الفرنسي تحديداً، حيث تمارس باريس ضغوطاً من أجل تعزيز قدرة حكومة رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي على التعامل مع الأزمة الاقتصادية المتصاعدة. كما تستعد العاصمة الفرنسية لاستضافة مؤتمر حول ليبيا في 12 نوفمبر القادم في سياق التمهيد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية الليبية التي سوف تجرى في 24 ديسمبر القادم. وسبق أن شارك الرئيس ايمانويل ماكرون في قمة بغداد للتعاون والشراكة في 28 أغسطس الماضي، والتي اعتبر الأخير أنها “مهمة لاستقرار المنطقة”.

ختاماً، يمكن القول إن هذا التوجه الأوروبي قد يؤدي إلى تصاعد حدة الضغوط الدولية التي تتعرض لها إيران قبل استئناف مفاوضات فيينا. لكن رغم ذلك، فإن الأخيرة قد لا تبدو في وارد التجاوب مع هذا التوجه، باعتبار أن هناك “خطوطاً حمراء” لا تستطيع حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي تجاوزها في هذا الصدد.