كيف يمثل “ملف الغاز” إشكالية في العلاقات التونسية-الجزائرية؟

مواقف متناقضة:

كيف يمثل “ملف الغاز” إشكالية في العلاقات التونسية-الجزائرية؟



تناولت وسائل إعلام تونسية خلال الفترة الأخيرة، أخباراً مفادها “رفض الجزائر تزويد تونس بالغاز الطبيعي”؛ وهو ما استدعى رداً رسمياً تونسياً، حيث فندت وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة نائلة نويرة القنجي، هذه الأخبار، مؤكدة عدم وجود “أى نية لقطع تزويد تونس بالغاز الجزائري”. ورغم ذلك، بدت معطيات تشير إلى فتور لافت في العلاقات التونسية-الجزائرية، أهمها تأخير الجزائر قرار فتح حدودها البرية مع تونس، وعدم الاستجابة لطلبها بزيادة إمدادات الغاز. ويبدو أن هذه الملفات تأتي كمؤثرات على مسار العلاقات بينهما؛ خاصة أنها أدوات تُوجِّهُ من خلالها الجزائر ما تراه مناسباً من رسائل سياسية إلى الإدارة التونسية، بشأن التباين بينهما حول عدد من القضايا الإقليمية، وفي مقدمتها الأزمة الليبية. ويبقى ملف الغاز الجزائري نقطة الارتكاز التي تستند إليها العلاقات بين البلدين، بل ويمثل العصب الرئيسي في حسابات المكسب والخسارة بالنسبة إلى كلٍّ منهما، وفي التفاعلات الجارية بينهما.

في خضمّ الحرب الروسية على أوكرانيا، وفي إطار تفاعلات هذه الحرب وتداعياتها على ملف الطاقة العالمي؛ ثارت في الفترة الأخيرة تساؤلات بشأن الواردات التونسية من الغاز الجزائري، وما يمكن أن تتسبب فيه من إشكالية كبرى إذا ما قررت الجزائر قطع الغاز عن جارتها تونس. هذا الاحتمال، بما يحتويه من تساؤلات، كان محور أخبار تناولتها في الفترة الأخيرة، وسائل إعلام تونسية زعمت “رفض الجزائر تزويد تونس بالغاز الطبيعي”؛ وهو ما استدعى رداً رسمياً تونسياً، حيث نفت وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة التونسية نائلة نويرة القنجي، في تصريحات للتلفزيون الرسمي “القناة الوطنية 1″، في 19 مايو الجاري، هذه الأخبار وأكدت عدم وجود “أى نية لقطع تزويد تونس بالغاز الجزائري”.

تراجع العلاقات

رغم ذلك، ورغم تأكيد القنجي على أن “لتونس طلبات إضافية من الغاز في أوقات الذروة، ودائماً ما تستجيب الجزائر لهذا الطلب”؛ إلا أن الملاحظ هو ما ينتاب العلاقات بين البلدين من فتور واضح وتراجع خلال الآونة الأخيرة، لعدد من الأسباب، يأتي من بينها ملف الغاز الجزائري إلى تونس. وقد بدت معطيات هذا الفتور اللافت وغير المعلن والذي طبع العلاقات بين الجارتين في الفترة الأخيرة، على أكثر من جانب، وهو ما يمكن تناوله في التالي:

1- تأخير قرار فتح الحدود البرية بين الدولتين، فيما تعتمد تونس، لدواعٍ اقتصادية عموماً ولإنقاذ السياحة بشكل خاص، في كل موسم سياحي على الوافدين من الجزائر، الذين يبلغ عددهم أكثر من مليونى سائح سنوياً، وذلك في إطار التراجع الكبير الحاصل في أعداد الوافدين من ليبيا، جراء الأزمة الممتدة هناك.

2- رفض طلب زيادة إمدادات الغاز إلى تونس، والاعتذار عن ضخ كميات إضافية من الغاز الجزائري إليها، حيث اكتفت الجزائر بالالتزامات التعاقدية معها وفقاً للاتفاقيات المبرمة بينهما. ورغم أن بلحسن شيبوب مدير عام الكهرباء بوزارة الصناعة والمناجم والطاقة في تونس، مثله في ذلك مثل الوزيرة نائلة القنجي، كان قد نفى المعلومات المتداولة إعلامياً حول رفض الجزائر تزويد تونس بالغاز، في الأسابيع الأخيرة؛ إلا أنه في تصريحات لإذاعة “موزاييك إف إم”، نقلتها عنها المواقع الإخبارية التونسية، أكد أنه “لا وجود لأزمة بيننا وبين الجزائر، والإشكال يكمن في أننا طلبنا كميات إضافية متفاوتة، بالإضافة إلى الكميات التعاقدية”.

3- عدم إجراء زيارات متبادلة بين مسئولي الدولتين، منذ زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى تونس في ديسمبر الماضي. ورغم مبررات الدواعي الصحية بخصوص التأخر في فتح الحدود البرية، أو مبررات البرمجة الفنية فيما يتعلق بالكميات الإضافية من الغاز الجزائري؛ فإن هذه الجوانب مجتمعة، أى ملفات فتح الحدود والسياحة وإمدادات الغاز، تبقى مؤشرات واضحة على تراجع العلاقات التونسية-الجزائرية، والفتور اللافت فيها. والجدير بالذكر أن الرئيس تبون أكد خلال زيارته لروما، في 26 مايو الجاري، أن “هناك اتفاقاً مع إيطاليا على مساعدة تونس للخروج من المأزق الذي تمر به”، إلا أن ذلك لا يوحي، حتى الآن، باتجاه الجزائر نحو إجراء تغيير في سياستها إزاء تونس.

4- وصول الخلافات الإقليمية إلى مرحلة غير مسبوقة، حيث تقوم الجزائر بـ”إعادة تقدير الموقف” بخصوص التباين الحاصل بينهما خاصة حول تطورات الأزمة الليبية التي تُشكل حجر الزاوية في الدائرة الأمنية الجزائرية (المواقف المتناقضة تجاه رئيس الحكومة المكلف من قبل البرلمان الليبي، فتحي باشاغا، مجرد مثال).

ارتفاع الأسعار

بصرف النظر عما تمثله الجوانب المُشار إليها من رسائل سياسية تبعث بها الإدارة الجزائرية إلى نظيرتها في تونس، خاصة أن ثمة اختلافات بينهما بخصوص الموقف من قضايا إقليمية متعددة، على رأسها الأزمة في ليبيا؛ يأتي الغاز الجزائري ليمثل العصب الرئيسي الذي تستند إليه التفاعلات بين الجارتين.

ونتيجة لمضاعفة الجزائر سعر الغاز، فإن تونس- التي تعتمد بنسبة 99% على الغاز الطبيعي في إنتاج الطاقة الكهربائية- مهددة بأزمة، بحسب تصريحات الكاتب العام لجامعة الكهرباء والغاز عبد القادر الجلاصي، لموقع “سبوتنيك” الإخباري؛ حيث تستورد البلاد ما يُقارب 65% من الغاز الطبيعي من الجزائر، لسد حاجتها الضرورية لإنتاج الطاقة، في ظل انحسار الإنتاج المحلي في حدود 35%، بحسب الموقع الرسمي لوزارة الصناعة والمناجم والطاقة التونسية.

ويتضاعف استهلاك التونسيين من الطاقة الكهربائية خلال فصل الصيف، حيث تجاوز خلال الفترة نفسها من العام الماضي 4500 ميجاوات، بما يعني اللجوء إلى طلب كميات إضافية من الغاز الجزائري، وهو ما يُمثل إشكالية نتيجة رفع الجزائر لأسعار الغاز إلى الضعف، وتزايد الطلب على الغاز الجزائري خاصة من الدول الأوروبية.

ويؤكد بلحسن شيبوب، في تصريحاته المُشار إليها، أن فاتورة عمليات شراء تونس للغاز من سوناطراك الجزائرية، تقدر هذا العام بنحو مليار دولار تبعاً لاتفاق الأسعار التفاضلية مع الجزائر؛ ولكنها قد تصل إلى 1.5 مليار دولار في ظل الارتفاع الحاد للأسعار العالمية، إذا تم اعتمادها من جانب الجزائر.

غياب البدائل

يتمثل الإشكال الأكبر في ملف الغاز الجزائري في أن تونس لا تمتلك بديلاً آخر في الوقت الراهن على الأقل، خصوصاً في ظل تراجع اكتشافات حقول الغاز، وغياب برنامج لإعادة جلب المستثمرين في مجال الطاقة. هذا، فضلاً عن أن مهمة البحث عن أسواق جديدة خارج “الاحتمال الجزائري”، تبدو صعبة مع تضاعف تكلفة النقل عشر مرات خلال العامين الأخيرين.

وقد توصّلت شركة الكهرباء والغاز التونسية، مع سوناطراك الجزائرية، في يناير 2020، إلى تمديد الاتفاقية المبرمة بين البلدين في مارس 1997، وهو الاتفاق الذي تَقَرر بموجبه تزويد تونس بالغاز الطبيعي حتى عام 2027.

وتجدر الإشارة إلى أن الكميات التي تحصل عليها تونس من الغاز الجزائري، تأتي عبر ثلاث قنوات: الأولى، كمية عن طريق العقد الموقع مع عملاق الطاقة الجزائري، سوناطراك. والثانية، كمية في مقابل مرور أنبوب الغاز الجزائري “ترانسماد” عبر أراضيها. والثالثة، عن طريق التفاوض على كمية إضافية خارج إطار التعاقد؛ وهذا ما اعتذرت الشركة الجزائرية عن توفيره للشركة التونسية، وهو ما كان مصدراً لزعم بعض وسائل الإعلام “رفض الجزائر تزويد تونس بالغاز الطبيعي”.

أنبوب “ترانسماد”

يمر أنبوب الغاز الجزائري هذا عبر الأراضي التونسية بطول يصل إلى 2485 كم، وبقدرة نقل تصل إلى 33.7 مليار متر مكعب، ويضمن تزويد ثلاث دول هى تونس وإيطاليا وسلوفينيا بالغاز الطبيعي. وبموجب الاتفاقية الجديدة التي تم التوقيع عليها، في 11 أبريل الماضي، بين شركتى إيني الإيطالية وسوناطراك الجزائرية، بمناسبة زيارة رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي إلى الجزائر؛ سوف تحصل إيطاليا على كميات إضافية من الغاز الجزائري، تصل إلى 9 مليارات متر مكعب سنوياً؛ بما يعني زيادة صادرات الجزائر من الغاز الطبيعي إلى إيطاليا بنحو 50%.

وحيث إن تونس هى الممر الاستراتيجي لأنبوب ترانسماد، الذي جرى تدشينه عام 1984، ويعبر تونس والبحر المتوسط وصولاً إلى جزيرة صقلية؛ فإنّ الاتفاق يضمن رفع حصة تونس من الرسوم الإجمالية على الغاز الجزائري (المحددة بـ25.5% من الغاز المنقول عبر الأراضي التونسية)؛ بما يعظم من المكاسب التونسية.

نقطة الارتكاز

خلاصة القول، إن ملفات فتح الحدود والسياحة وإمدادات الغاز تأتي ضمن أهم المؤثرات على مسار العلاقات التونسية-الجزائرية؛ خاصة أنها أدوات تبعث من خلالها الجزائر بما تراه مناسباً من رسائل سياسية إلى الإدارة التونسية. ومع ذلك، يبقى ملف الغاز الجزائري نقطة الارتكاز التي تستند إليها العلاقات التونسية-الجزائرية؛ بل يمثل العصب الرئيسي في حسابات المكسب والخسارة بالنسبة إلى كل منهما، وفي التفاعلات الجارية بينهما، وسوف يظل هكذا ما لم تستخدمه الجزائر كـ”ورقة ضغط” تجاه بعض توجهات السياسة الخارجية التونسية، على المستوى الإقليمي.