كيف يؤثر التنافس الصيني-التركي في إفريقيا على المنطقة العربية؟

تهديد محتمل:

كيف يؤثر التنافس الصيني-التركي في إفريقيا على المنطقة العربية؟



تتمتـع القـارة الإفريقية بأهمية استراتيجية كبرى أفضـت بهـا إلـى الوقـوع فـي شـرك التنافـس الشـرس بيـن القـوى الإقليمية والدوليـة فـي السـنوات الماضيـة لتحقيـق مصالحهـا وجني أكبر قدر من المكاسب، ونتيجة لهذا دخلت القارة في شبكة من التفاعلات التي أنتجت الواقع الإفريقي الحالي الحافل بالصراعات والأوضاع المتردية في كافة المستويات. وفي هذا السياق، يتجلى التنافس التركي-الصيني في إفريقيا كأحد أوجه الصراع الدولي الإقليمي في القارة، وهو ما يُمكن تحديده من خلال تحليل دوافع هذا التنافس، وسلوك كلٍّ من تركيا والصين كقوى متنافسة، وأخيراً تأثير هذا التنافس على المنطقة العربية.

محفزات رئيسية

ينبع التنافس التركي-الصيني بإفريقيا من تعارض المصالح بينهما نتيجة سعي كل منهما لتوسيع نطاقه الاقتصادي والاستراتيجي، وهو ما يمكن إيضاحه باستعراض محاور التنافس على النحو التالي:

1- الفوز بنصيب وافر من موارد القارة: تكتسـب القـارة الإفريقية أهميتهـا مـن كونهـا تشـكل خـزان العالـم الاسـتراتيجي مـن المـوارد الطبيعيـة والمـواد الأولية التـي يشـتد الضغـط عليهـا فـي ظـل التنافـس الشـديد بيـن كبـرى الـدول المسـتهلكة لهـذه المـوارد، فـي الوقـت الـذي يـزداد فيـه الطلـب العالمـي وتتقلـص نسـبة الاحتياطـات العالميـة ومعـدلات الإنتاج فـي أماكـن ومناطـق أخـرى مـن العالـم. في هذا الإطار، يسعى كل من تركيا والصين للفوز بنصيب وافر من تلك الموارد، وهو ما يعزز من فرص التنافس بين البلدين.

فمن أهم أهداف النزوح الصيني إلى إفريقيا على سبيل المثال، الاستحواذ على آبار النفط والغاز واليورانيوم، والذهب، والماس، فالصين تحصل على نسبة 9% من نفط إفريقيا جنوب الصحراء بينما يتجه 30% منه إلى أوروبا. في المقابل، تمثل واردات الطاقة أهمية ضرورية لتركيا، حيث بلغت أكثر من ٤١.١ مليار دولار عام ٢٠١٩، وهو ما يعني احتياج تركيا بشكل كبير للنفط والغاز، فهي تعد ثاني بلد بعد الصين في استيراد الغاز، حيث تستورد أكثر من ٩٥٪ من حاجتها لهذا المورد، ولذا فإن اختراقها القارة يؤمن هذا الاحتياج الاستراتيجي من مواد الطاقة عبر شركات النفط المُستثمرة في إفريقيا.

2- زيادة حجم التجارة والاستثمار بالقارة: يتجلّى التنافس التركي-الصيني بالقارة نتيجة سعي كلٍّ منهما للانفتاح على السوق الإفريقية الواسعة وزيادة حجم التجارة والاستثمارات بالقارة. حيث بلغت قيمة المشاريع التي أنجزتها الشركات التركية في إفريقيا، حتى نهاية ٢٠١٩ نحو ٧٠ مليار دولار، والتي يبلغ عددها ١٥٠٠ مشروع، فضلاً عن توقيع تركيا لاتفاقيات تعاون تجاري واقتصادي مع أكثر من ٤٩ دولة إفريقية، واتفاقية تحفيز وحماية الاستثمارات المشتركة مع ٢٨ دولة، واتفاقية تجنب الازدواج الضريبي مع ١٢ دولة إفريقية.

على الجانب الآخر، تُعتبر الصين أكبر مستثمر في إفريقيا بحسب تقارير للبنك الدولي نتيجة لزيادة الاستثمارات الصينية في القارة والتي وصلت إلى ما يقارب 15 مليار دولار في كافة القطاعات، كما شرعت في بناء مصانع تابعة لها في الأراضي الإفريقية بهدف غزو الأسواق الإفريقية والاستفادة من اليد العاملة الإفريقية الرخيصة.

إضافة لما سبق، تُشكل منطقة “المغرب العربي” محورًا للتنافس التركي-الصيني، حيث ارتفع حجم الاستثمارات التركية في منطقة المغرب العربي إلى  25.3 مليار دولار في عام 2020، ناهيك عن قيام تركيا بتوقيع اتفاقية شراكة مع تونس، واتفاقية تجارية مع المغرب، واتفاقية صداقة وتعاون مع الجزائر، وهو ما ساعد على نجاح انتشار المنتجات التركية بالمنطقة حتى الآن.

في المقابل، عززت الصين قوتيها الاقتصادية والناعمة بإفريقيا من خلال مبادرة “الحزام والطريق”، حيث أنشأت شراكات استراتيجية شاملة مع الجزائر ومصر، وشراكة استراتيجية مع المغرب، وتتضمن هذه الشراكات العشرات من مذكرات التفاهم والوعود بمشاريع بنى تحتية وإنمائية كبيرة. كما تجدر الإشارة إلى أن الصين وقّعت مذكرات تفاهم حول مبادرة “الحزام والطريق” مع ليبيا وتونس لكنها لم تعقد شراكةً رسمية مع أي من هاتين الدولتين.

لذلك عندما يتعلق الأمر بحجم ومدى المشاريع في إفريقيا فإن تركيا لا تضاهي الصين، فوفقاً لتصنيف أفضل 250 مقاولاً دولياً في سجل الأخبار الهندسية استناداً إلى الإيرادات المحققة في الخارج؛ احتل المقاولون الأتراك المرتبة الثالثة مع 40 شركة في عام 2020، أما الصين فقد جاءت في المرتبة الأولى مع 78 شركة، فضلاً عن العقبات الرئيسية التي تعترض مسيرة تركيا بسبب انهيار الليرة وتدهور الاقتصاد، ولا سيما مع انتشار وباء كورونا المستجد. الأمر الذي عزز من فرص التنافس بين البلدين، وهو ما تجلى في سعي تركيا حالياً للتحالف مع اليابان لتقويض النفوذ الصيني بإفريقيا، حيث افتتح بنك اليابان للتعاون الدولي (JBIC) مكتباً إقليمياً في إسطنبول عام 2020 تحقيقاً لهذا الشأن، كما أكملت شركة Calik Energy التركية التي تمتلك شركة Mitsubishi Corporation اليابانية التجارية حصة فيها، مؤخراً توسيع محطة صغيرة للطاقة الكهرومائية في جمهورية ملاوي بجنوب شرق إفريقيا بتمويل من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي.

3- الهيمنة على المواقع الاستراتيجية: وهنا يظهر التنافس في سعي كلٍّ من تركيا والصين إلى التمركز في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية الفائقة بالقارة، فقد اتجهت الصين إلى إبرام صفقة مع دولة جيبوتي لشراء حصة من ميناء جيبوتي الاستراتيجي نظراً لأهمية موقعه الاستراتيجي المطل على المحيط الهندي والمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، حيث مضيق باب المندب الذي يُعدّ ممراً مهماً للتجارة العالمية، ولأي تحركات عسكرية قادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة باتجاه منطقة الخليج العربي وشرق إفريقيا.

على الجانب الآخر، أكدت تركيا في وثيقة الاستراتيجية البحرية الخاصة بها والصادرة عام ٢٠١٤، أن كلاً من البحر الأحمر وخليج عدن سيكونان حلقة الوصل الأساسية بين تركيا وشرق المتوسط والمحيط الهندي، وعليه وقّعت تركيا مع جيبوتي اتفاقية عام ٢٠١٧ تنص على إنشاء منطقة تجارة حرة تبلغ مساحتها ١٢ مليون متر مربع، فضلاً عن موافقة السودان لتركيا على تطوير وإدارة جزيرة “سواكن” المطلة على البحر الأحمر مما يمنح تركيا ميزة استراتيجية مهمة ستمكنها من النفاذ إلى العمق الإفريقي.

4- التوسع الإقليمي والدولي لخدمة أهداف سياسية: تسعى كل من تركيا والصين لتعميق التوغل في إفريقيا لتحقيق دوافع سياسية خاصة والتي تشكل في بعض الأحيان محوراً للتنافس بينهما، حيث تطمح تركيا إلى التوسع الإقليمي من خلال القارة، ويأتي ذلك ضمن أهدافها الرامية نحو إحياء العثمانية الجديدة، خاصة في ظل إخفاقاتها على الجانب الأوروبي وفشلها في الانضمام للاتحاد الأوروبي، فضلاً عن استمرار اختلال التوازن في المعادلة الإقليمية بالشرق الأوسط، مما دفعها للتوسع نحو منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي. وهو ما يتزامن مع رغبة الصين في تغيير قطبية المجتمع الدولي لجعله عالماً متعدد الأقطاب، من خلال التقارب مع الدول النامية لتكون هي القائدة لهم في المجتمع الدولي. ولذلك تقترب الصين من الدول الإفريقية النامية، كما تعتمد الصين على الكتلة التصويتية الكبرى للدول الإفريقية لتغيير عددٍ من الاتفاقيات بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً المتعلقة بالملكية الفكرية، وتهدف أيضاً إلى عزل تايوان، وكذلك للحيلولة دون وصول الهند إلى مقعد دائم في مجلس الأمن.

تداعيات محتملة

انعكست التأثيرات الحالية والمحتملة للتنافس التركي-الصيني بإفريقيا على المنطقة العربية في عدد من القضايا، وذلك على النحو التالي:

1- تعزيز موقع تركيا لدى الولايات المتحدة: فمن الممكن أن توظف أنقرة تنافسها مع الصين لتحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة والناتو والتي كانت قد تدهورت في الآونة الأخيرة، وذلك بالتحالف مع الولايات المتحدة لتقويض النفوذ الصيني بإفريقيا، وهو أمر قد توظفه تركيا لدعم موقفها في صراعات المنطقة، ولا سيما الصراعين السوري والليبي.

وأبرز دليل على هذا، الندوة الافتراضية التي نظمها “مجلس الأعمال التركي-الأمريكي” في يونيو 2020، حيث طرح “ليندسي جراهام” عضو مجلس الشيوخ الأمريكي خلالها عبارات التشجيع للتعاون التركي-الأمريكي في إفريقيا لمواجهة الصين حينما قال: “عندما نبدأ بتحقيق التكامل بين الاقتصادين سنصبح شريكين أكثر فاعلية في إفريقيا، وليس هناك شيء يبعث على سروري أكثر من الشراكة مع تركيا لنوفر للقارة الإفريقية بدائل عن المنتجات والنفوذ الصيني”، وذلك في إطار حديثه عن اتفاقية للتجارة الحرة بين أنقرة وواشنطن.

2- تعقيد معادلة الأمن القومي العربي: حيث سيؤدي التنافس التركي-الصيني بإفريقيا إلى تعقيد معادلة الأمن القومي العربي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي وكذلك الخليج العربي. ولعل هذا ما يبرر تنامي الحضور الخليجي والعربي في المنطقة عبر الاستثمارات والقواعد العسكرية، وهو ما تجلّى في إطلاق منتدى البحر الأحمر بقيادة السعودية وبمشاركة مصر والدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر. وبالرغم من أهمية هذه التحركات إلا أنها بحاجة لمزيد من الجهد والتضامن العربي من أجل إنجاح صيغ تعاون لإرساء الأمن في المنطقة ومواجهة كافة الأدوار والتدخلات التي باتت تهدد الأمن القومي العربي عبر بوابة إفريقيا.

3- زيادة فرص التدخل الإيراني بالمنطقة: تشكل القارة الإفريقية محوراً في أولويات السياسة التوسعية الإيرانية بدءاً من شرق إفريقيا مروراً بالقرن الإفريقي وأخيراً الدول الإفريقية التي تطل على البحر الأحمر ومن بينها السودان وإريتريا وجيبوتي، والتي تسعى إيران لتقوية علاقاتها البحرية معها لصنع ممرات بحرية وبرية تقود إلى الميادين التنافسية ذات طابع المواجهة مع إيران في الشرق الأوسط، والتي قد تستخدم لتهريب الأسلحة وزيادة العمليات الإرهابية.

انطلاقاً من هذا، سيُعزز التنافس التركي-الصيني بإفريقيا من فرص التوسع الإيراني هناك، وبالتالي زيادة تأثيرها في مناطق الأزمات العربية، ومن أبرزها سوريا والعراق وغيرهما، فضلاً عن تهديدها للأمن الخليجي عن طريق التغلغل الشيعي، لا سيما وأنها نجحت في استغلال الخلافات بين الطرق الصوفية في إفريقيا والمد الثقافي السعودي، ولذا حاولت طهران التقارب مع تيار التصوف الإفريقي بهدف فتح مجال لها للتوغل في المنطقة.

وبناءً عليه، من المحتمل أن تسعى إيران للاستفادة من هذا التنافس بالتعاون مع الصين على سبيل المثال، باستخدام ورقة عدائهما المشترك للولايات المتحدة، لا سيما وأنها تسعى لترسيخ نفوذها السياسي بإفريقيا كجزء من المحور المعادي لأمريكا الذي تسعى إلى إنشائه في دول العالم الثالث، ناهيك عن رغبتها في تحسين أوضاعها الاقتصادية نتيجة للعقوبات الأمريكية، وهو ما قد يدفع الصين للتعاون معها لا سيما مع محاولات أنقرة للتحالف مع واشنطن لتقويض النفوذ الصيني بإفريقيا، وهو ما سيشكل في نهاية الأمر تهديداً للمنطقة العربية، خاصةً في ظل التطورات المتلاحقة على أطراف النظام العربي في امتداداته الإفريقية.

ادراك الخطر

ختاماً، مع استمرار التنافس التركي-الصيني بإفريقيا بجانب الأطراف الأخرى كالولايات المتحدة واليابان وفرنسا وإيران وإسرائيل وغيرها، سيتوجب على الجانب العربي التنبه لخطورة ذلك، ومن ثم العمل على تطوير التفاعل العربي-الإفريقي عبر صيغ مؤسسية للتنسيق والتخطيط في كافة المجالات.