كيف تفكر إسرائيل في دروس حرب غزة؟

مراجعات تل أبيب:

كيف تفكر إسرائيل في دروس حرب غزة؟



فرضت الحرب الأخيرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية حقائق سياسية وعسكرية جديدة؛ فمن جهة أولى، دفع الأداء العسكري الفلسطيني الإسرائيليين نحو مراجعة منظومتهم الدفاعية وإعادة تقييم الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه الفصائل الفلسطينية خاصة مع بروز التطور العسكري للفصائل الفلسطينية خلال الحرب الأخيرة وتهديد المستوطنات والمدن الإسرائيلية، ومن جهة ثانية، كشفت معطيات الحرب الأخيرة عن حالة التأزم الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، وإمكانية تفجر الحرب الأهلية داخل إسرائيل في خضم تفاقم التباينات الداخلية والسياسات التمييزية التي تتبناها السلطة.

وفي هذا السياق، اهتمت مراكز الفكر والأبحاث العالمية بتحليل تأثيرات الحرب الأخيرة، التي أسمتها إسرائيل عملية “حارس الأسوار”، على السلوك والاستراتيجية الإسرائيلية ومختلف الأطراف، فضلاً عن استشراف التغيرات المحتملة التي ستخلفها الحرب. وعليه، يسعى هذا التقرير إلى عرض الرؤى الإسرائيلية حول مرحلة ما بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة، من خلال التركيز على أربع تقارير نشرها معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي حول أبعاد مختلفة بعد العملية العسكرية الأخيرة.

الجبهة المدنية

شكلت تداعيات الحرب الأخيرة على الجبهة المدنية الإسرائيلية اهتمام العديد من مراكز الأبحاث، حيث نشر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، تقرير بعنوان “عملية حارس الأسوار: دروس للجبهة المدنية”، ويشير التقرير إلى أن الحرب الأخيرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية كشفت عن تحسن وتطور القدرات الهجومية للفصائل الفلسطينية، وطبقاً لبيانات الجيش الإسرائيلي، فقد تم إطلاق حوالي 4360 صاروخاً وقذيفة هاون باتجاه إسرائيل خلال 11 يوماً من العملية العسكرية، بمعدل400 هجوم يوميًا تقريبًا، عبر منهم 3400 صاروخا الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة، وسقط معظمهم داخل منطقة غلاف غزة وعسقلان وأسدود. وأطُلق نحو 120 صاروخا باتجاه وسط إسرائيل بما في ذلك تل أبيب. وبخلاف الأضرار التي ألحقتها الصواريخ بالممتلكات والمنشأت، فقد نتج عنها أيضًا مقتل 13 إسرائيليًا بينهم جندي واحد.

وبالرغم من افتراض التقرير أن الجبهة المدنية أظهرت مستوى ملحوظ من المرونة الوظيفية في التعامل مع الحرب، إلا أنه أوضح أيضاً أن الحرب كشفت عن بعض الإشكاليات، فمن جهة أولى، قرر العديد من السكان، خاصة في المناطق المحيطة بغزة، مغادرة منازلهم بنسبة تجاوزت نصف السكان في بعض المناطق حتى انتهاء القتال، خاصة العائلات التي لديها أطفال، مع العودة بمجرد وقف إطلاق النار. كما شهدت أماكن أخرى في جنوب ووسط إسرائيل تحرك السكان شمالًا. ولم يكن هذا الإخلاء بمبادرة من الحكومة، إنما تم عبر القيادة المحلية في “الكيبوتسات” أو من قبل الأفراد أنفسهم، وهو ما يعني أنه كان نشاطً غير منظمًا بالشكل الكافي. وقد كانت عملية إخلاء الناس من مدن مثل سديروت وعسقلان وأسدود عملية معقدة بسبب حجم سكانها. وهو ما يشير إلى حاجة الحكومة الإسرائيلية، بحسب التقرير، إلى تنظيم تلك العملية بشكل منهجي.

ومن جهة ثانية، تُظهر الأرقام الإسرائيلية أن أكثر من 60% من الشقق في إسرائيل ليس بها غرفة آمنة، وأن 27% من السكان الإسرائيليين، حوالي 2.4 مليون شخص، لا يمكنهم الوصول إلى مأوى يلبي المعايير. كما أن الملاجئ العامة في الأحياء تلبي احتياجات حوالي 6% فقط من السكان، في حين أن حوالي 28% فقط يستخدمون ملاجئ مبانيهم السكنية.

المثير للانتباه، أن الحكومة الإسرائيلية قد أصدرت عام 2019 قرارًا بشأن منشآت الحماية في الشمال بميزانية تزيد عن مليار دولار، لكن لم يتم تنفيذه مطلقًا. ولذلك يوصي التقرير الحكومة بإعداد خطة استراتيجية لسد الثغرات وتحسين المرافق القائمة. وكذلك أن توسع الحكومة من نطاق مرافق الحماية داخل المنازل والملاجئ العامة.

التطور التسليحي

حاول معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي تقييم تطور القدرات التسليحية للفصائل الفلسطينية من خلال التقرير المنشور بعنوان “الأنظمة بدون طيار للجانب الآخر: بعد عملية حارس الأسوار” للكاتبة “ليران أنتيبي”Liran Antebiوتشير أنتيبي إلى أن الحرب الأخيرة كشفت عن تطور القدرات العسكرية للفصائل الفلسطينية، وخاصة حركة حماس، حيث استخدمت حركة حماس الطائرات المسيرة والغواصات المسيرة لمهاجمة القوات الإسرائيليةوالمدن الإسرائيلية ومنشآت الغاز في البحر. وبحسب التقرير، فقد تم إسقاط ما لا يقل عن أربع طائرات بدون طيار بواسطة نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي، بما في ذلك أول اعتراض من نوعه بواسطة القبة الحديدية، كما تم العثور على طائرات بدون طيار تحمل متفجرات على الأرض داخل إسرائيل وتم تفكيكها من قبل القوات المختصة. فضلًا عن مهاجمة غواصة بحرية مسيرة.

ويضيف التقرير أن إيران هي مصدر الطائرات بدون طيار التي تمتلكها حماس، كما يربط بين امتلاك حماس للدرونز وبين رخصها وسهولة الحصول عليها وتشغيلها. وهكذا، تخلص “أنتيبي” إلى أن تنامي امتلاك الفاعلين من غير الدول كحماس وحزب الله للدرونز يدفع الجانب الإسرائيلي لدراسة جهود واتجاهات استخدام الفصائل الفلسطينية للطائرات والغواصات المسيرة وكيفية الاستعداد لمزيد من الاستخدام الفلسطيني لها.

البعد القانوني

ثمة بعد قانوني للحرب تتناوله “بنينا باروخ” Pnina Baruch في تقريرها المنشور على موقع معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي بعنوان “عملية حارس الأسوار: الزاوية القانونية”، وتفترض باروخ أن إسرائيل عليها أن تتجهز للمواجهة القانونية لاسيما مع صدور قرار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الصادر في 27 مايو الماضي بإنشاء لجنة تحقيق، وملاحظات المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بأن المحكمة الجنائية الدولية قد تحقق في جرائم حرب محتملة ارتكبت في العملية الأخيرة.

ويشير التقرير إلى أن الجدل حول مشروعية وقانونية تلك العملية لم تنته بعد، بل على إسرائيل البدء في مواجهتها. إذ تبني إسرائيل، بحسب التقرير، دفاعها الدولي بقولها إن حركة حماس هي من بدأت القتال بإطلاق صواريخ على مدينة القدس دون أي إجراء مسبق من جانب إسرائيل” وكذلك الاعتماد على تصنيف بعض الدول لحركة حماس كمنظمة إرهابية، وهو ما تستغله إسرائيل لجذب دعم دولي وتفهم لضرورة التحرك لوقف إطلاق الصواريخ من قبل حماس.

وبالرغم من تلك الدفوع الإسرائيلية، فإن “باروخ” تذكر أن ظهور صور الضحايا المدنيين والدمار الشديد في قطاع غزة في وسائل الإعلام الدولية هو ما يحرج الموقف الإسرائيلي، وحتى مع اتهام إسرائيل لحماسبارتكاب جريمة حرب عبر الإطلاق العشوائي للصواريخ على السكان المدنيين الإسرائيليين، إلا أن هذا وحده لا يعفيها من المسائلة، حيث لا يوجد مبدأ المعاملة بالمثل في قوانين الصراع المسلح والقانون الإنساني الدولي، بل الاعتماد على مبدأي التمييز والتناسب. أي حظر استهداف المدنيين غير المتورطين في الأعمال العسكرية أو المنشأت المدنية. وحظر القيام بأي هجوم يُتوقع أن يتسبب في أضرار جانبية مفرطة للمدنيين والمنشأت المدنية، وموازنة الضرر المتوقع.

وفي هذا الصدد، تشير باروخ إلى أن إسرائيل ستبني دفاعها القانوني على أساس عدد من الحجج منها:أن قانون النزاعات المسلحة يقر بفقدان المنشأت المدنية لحصانتها وتصبح أهدافًا عسكرية مشروعة للهجوم إذا كانت بطبيعتها أو موقعها أو غرضها أو استخدامها تقدم مساهمة فعالة في العمل العسكري وكان تدميرها يوفر ميزة عسكرية محددة. وعليه، يمكنأن تدفع إسرائيل بأن البنية التحتية العسكريةلحركتي حماس والجهاد الإسلامي تقع في مباني مدنية، بما في ذلك المنازل والمدارس والمساجد.

علاوة على إظهار تل أبيب أنها التزمت خلال الحرب باتخاذ الاحتياطات الممكنة لتقليل الضرر اللاحق بالمدنيين والمنشأت المدنية عبر إصدار تحذيرات مسبقة قبل الهجمات، ومحاولة تبرير هجماتها باعتبار أنها كانت لوقف الهجمات الصاروخية الفلسطينيةبما سببته من اضطرابات وخسائر اقتصادية ومدنية. وفي الإطار ذاته، ترى باروخ أن الطريقة الرئيسية أمام إسرائيل لمواجهة الاتهامات والإجراءات الجنائية المحتملة هي “إجراء تحقيقات مستقلة شاملة وفعالة وسريعة وشفافة، ومواجهة الحملة القانونية بمادة واقعية وقانونية.

تنافس فلسطيني

استدعت الحرب الأخيرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية قضية العلاقة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس كواحدة من القضايا الرئيسية، ولعل هذا ما دفع معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي إلى نشر تقرير بعنوان “عملية حارس الأسوار: انتهت ولم تكتمل“، للباحث “أودي ديكل”Udi Dekel، وينطلق “ديكل” من فرضية مفادها أن حماس حققت أهدافها السياسية بالقيام بدور الدفاع عن القدس والمسجد الأقصى،وإطلاق قذائف صاروخية في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة،وتعطيل الحياة المدنية الروتينية، ومقتل 12 شخصًا، فضلاً عن الخسائر التي سببتها الهجمات الصاروخية، والمظاهرات والاضطرابات. كما أثبتت الحركة أنها اللاعب الوحيد، على عكس حزب الله وإيران، المستعد لمواجهة الجيش الإسرائيلي. فضلًا عن بروز دورها في الداخل الفلسطينيمقابل ضعف السلطة الفلسطينية.

وعطفاً على ما سبق، يشير التقرير إلى أن إسرائيل في حاجة لإعادة النظر في سياستها تجاه قطاع غزة وحماس، بحيث تمنع حركة حماس من مضاعفة ونفوذها، وبالتالي تعزيز مكانة السلطة الفلسطينية والحفاظ عليها كشريك في المفاوضات مع إسرائيل. وهنا، يرى التقرير أن إسرائيل يمكنها دعم السلطة الفلسطينية وتعزيز موقفها بالامتناع عن إجراءات الضم المتسارعة في الضفة الغربية.

بالإضافة إلى ذلك، يرى “ديكل” ضرورة تخفيف الضائقة الاقتصادية والإنسانية في قطاع غزة، مع منع التعزيزات العسكرية من قبل حماس. واستخدام وسائل تفتيش صارمة لمراقبة دخول واستخدام المواد ذات الاستخدام المزدوج في قطاع غزة لمنع وصولها إلى مشاريع حماس العسكرية. وكذلك اشراك السلطة الفلسطينية في إعادة اعمار قطاع غزة وتهيئة الظروف لاستعادة سيطرتها في المنطقة.

وبشكل مجمل، يفترض “ديكل” أن على إسرائيل تبني تهدئة وفق تفاهمات مترابطة على أربع مستويات: أولها المستوي السياسي، الذي يعمل على تعزيز مكانة السلطة الفلسطينية في المعسكر الفلسطيني ومكافأتهاعلى تبني خيار الحوار، مقابل قوى المقاومة التي تتبنى خيار القوة. والمستوى الثاني أمنياً، ويعتمد على الضمانات المصرية للحفاظ على وقف إطلاق النار. وأن تضع إسرائيل، حال عدم استمرار الهدوء، آلية للإكراه تشمل هجمات قوية ضد حماس مقابل كل انتهاك من قطاع غزة، على أن تتحمل حماسمسؤولية كبح الفصائل المتمردة.

ويرتبط المستوى الثالث بإعادة الإعمار الاقتصادي، وتشكيل وكالة دولية، بحسب التقرير، تضم الرباعية والأمم المتحدة والدول العربية البراجماتية، لإدارة مشروع إعادة الإعمار في قطاع غزة والمساعدات الإنسانية للسكان، شريطة منع إعادة تسليح حركتي حماس والجهاد الإسلامي. ومنعدخول الأموال إلى حركة حماس.

ويتعلق المستوى الرابع والأخير بتبادل الأسرى، وإعادة الأسرى وجثث الجنود الإسرائيليين الذين تحتجزهم حركة حماس مقابل عدد معقول من الأسرى الفلسطينيين، مع مراعاة خطورة الاتهامات المنسوبة إليهم. ووفقاً للتقرير، يتعين على إسرائيل أن تجعل من هذا الملف شرطاً لتشكيل نظام مساعدات دولي لقطاع غزة.