كيف تعاطت قمة جدة مع الصراعات الإقليمية؟

موازنة المسارات:

كيف تعاطت قمة جدة مع الصراعات الإقليمية؟



تطرقت قمة الأمن والتنمية في جدة إلى كافة الصراعات الإقليمية في الشرق الأوسط، حيث تمحورت كلمات القادة المشاركين فيها حول كيفية التعاطي مع ملفات الصراعات في كل من سوريا وليبيا واليمن، في إطار الموازنة ما بين المسارات الدبلوماسية لاستكمال عملية التسوية السياسية في البعض منها، والبناء على حالة التهدئة وانخفاض مستوى الصراع كما في الحالتين السورية والليبية، ودعم إطلاق المسار ذاته في الحالات قيد الانتقال ما بين مساري الصراع والتسوية، كاستثمار حالة الهدنة الحالية في اليمن. ومن جهة أخرى، ركّز العديد من القادة على تعزيز آليات الردع المشترك للتعامل مع التهديدات الأمنية الأوسع على المستوى الإقليمي، مثل تعزيز أمن الممرات الملاحية، وبحث قدرات وإمكانيات التنسيق الدفاعي للتصدي للتهديدات الإيرانية في المنطقة.

ثلاثة مستويات

جرى تشخيص حالة الصراعات الإقليمية في قمة جدة للأمن والتنمية، وفق ثلاثة مستويات رئيسية هي:

الأول- أزمات الماضي الممتدة: وهي العبارة التي وردت في خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن القضية الفلسطينية، والتي شكلت القاسم المشترك في كافة المداخلات بلا استثناء، بل وانطوت في الوقت ذاته على قاسم مشترك في الطرح الخاص بمعالجة القضية، وهو تفعيل التسوية السياسية للقضية على أرضية حل الدولتين، بما يعكس توجهاً عربياً لاستثمار الموقف الأمريكي الذي يتبنى الموقف ذاته، مع التركيز على أن هناك مبادرة عربية مطروحة في هذا السياق. وإجمالاً، عكست كافة المداخلات تقريباً ذات المحاور الخاصة بإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، عبر إعادة إحياء مفاوضات السلام العادل والشامل، وصولاً إلى مرحلة الحل النهائي للقضية، وبالتالي اتضح أن الموقف العربي كان منسقاً بشكل جماعي في هذا الشأن. كما بدا أن هناك صدى لهذا التكاتف من خلال رد الفعل الأمريكي بالعمل على دعم هذا التوجه، وهو ما جرى التأكيد عليه في البند الرابع من البيان الختامي للقمة.

الثاني- الصراعات المسلحة المتراجعة: وهي الصراعات التي دخلت بالفعل في طور التسوية السياسية كما في الحالتين السورية والليبية، حيث اتفق القادة المشاركون في القمة على دفع مسار التسوية السياسية في هذه الصراعات، والبناء على التراكمات التي جرت في ملفاتها، وهو ما ورد في البند 13 بخصوص الحالة السورية، والبند 15 بالنسبة للحالة الليبية، مع الوضع في الاعتبار أن الرئيس الأمريكي جو بايدن أكد قبيل وصوله للمنطقة (في مقاله بـ«واشنطن بوست») على أولوية إنهاء الجمود السياسي في الملف الليبي، بينما أكدت السعودية في القمة الثنائية مع الجانب الأمريكي على ضرورة الإسراع في إجراء الانتخابات الليبية ضمن إطار دعم العملية السياسية، فيما أشار الرئيس السيسي بشكل ضمني إلى أولوية إنهاء ظاهرة المليشيات والتدخل الخارجي في الملف الليبي.

الثالث- استثمار التهدئة في اليمن كمدخل للعملية السياسية: إذتمحور المنظور الرئيسي الذي عكسه تناول القادة للصراع في الملف اليمني، حول إمكانية البناء على خطوة التوصل إلى هدنة في اليمن، وكيفية تحويلها إلى عملية سياسية، وفق المرجعيات الأممية المقررة في هذا الشأن، والإقليمية أيضاً في إطار المبادرة الأخيرة التي أقرها مجلس التعاون الخليجي في الرياض (أبريل 2022). وتضمن البند الخامس عشر الصادر عن القمة دعوة الأطراف اليمنية إلى اغتنام الهدنة كفرصة للبدء الفوري في مفاوضات مباشرة برعاية الأمم المتحدة، كما اعتبرت الرئاسة والخارجية اليمنية أن القمة تشكل هي الأخرى فرصة لإطلاق هذا المسار، مع الإشارات الواضحة من الجميع على أن وقف الحرب في اليمن يُشكل فرصة أيضاً لتعزيز العمليات الإغاثية المتفاقمة بفعل الحرب.

عاملان محفزان

يُمكن القول إن ثمة حالة من التوافق في إطار مخرجات القمة على آليات التعامل مع ملفات الصراع الإقليمي، بالنظر إلى عاملين رئيسيين:

العامل الأول- تحديد مداخل التعامل السياسي مع ملفات الصراعات والأزمات، وذلك من خلال عدد من المؤشرات منها:

1- مركزية الحلول السياسية بين الأطراف المتنازعة لكافة ملفات الصراعات، وبالتبعية إسقاط بند “الحل العسكري” في كافة الصراعات، بل والعمل على إنهاء مظاهر العسكرة، سواء عبر التدخلات الخارجية، أو من خلال دفع أطراف الصراع المحليين إلى الجلوس على طاولات التفاوض برعاية الأمم المتحدة.

2- دعم السيادة الداخلية للدول الوطنية، وهو ما ورد بشكل عام في سياق تقويض عملية التدخلات الخارجية في ملفات الصراعات الإقليمية، كما ورد بشكل تفصيلي في حالات الصراعات والأزمات الإقليمية دون تفرقة، وتناوله البيان الختامي في حالات سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا والسودان، وباعتباره مبدأ عاماً لا جدال حول مرجعيته، وفق مبادئ القانون الدولي والأمم المتحدة.

3- التنسيق والتشاور المشترك بين الدول العربية، مما يقلل من ظاهرة التعامل المنفرد أو الثنائي مع ملفات الصراع، خاصة وأن مسارات التسوية السياسية كاشفة عن أن هناك حاجة لأدوار جماعية. فعلى سبيل المثال، اقتضت الهدنة في اليمن تنامي أدوار مصر والأردن، كما أن الإشارة إلى مسألة احترام التوافقات تعكس الحاجة إلى سد الفجوة في التحرك على المسارات الموازية، وهو ما اتضح -على سبيل المثال- في ملف الأزمة الليبية.

4- تعزيز خيار التكامل الإقليمي: على الرغم من أن البيان الختامي تضمن الإشارة إلى مسألة التكامل الإقليمي كبعد تنموي، لكن يظل في خلفيته البعد الأمني في تقويض الصراعات، وأن شبكة التنمية الإقليمية ستخلق بدورها مصالح مشتركة تحد من ظاهرة الصراعات، وهو سياق له تجلياته في خفض الصراعات الإقليمية، منها -على سبيل المثال- ما عُرف بمشروع “أنابيب السلام”. ومن جهة أخرى، في السياق نفسه، تضمن البيان الختامي إشارة واضحة إلى دور هيئات التنمية المشتركة بين المجموعة العربية (5+3) والجانب الأمريكي.

العامل الثاني- تعزيز اللجوء إلى بدائل الردع بالمعنى الواسع، فمن الواضح أن القمة أيضاً طورت مفهوم الردع بحيث لا يُختزل فقط في الإطار العسكري، مع الوضع في الاعتبار مركزية الدور الأمريكي في تعزيز الجانب الخاص بالردع العسكري للتعامل مع المهددات الإقليمية. لكن إجمالاً ظهرت هذه البدائل في سياق المؤشرات التالية:

1- ترتيبات الأمن الإقليمي المشترك: وهي ترتيبات دفاعية في المقام الأول، وتعتمد –كما سلفت الإشارة– على مركزية الدور الأمريكي في التنسيق الأمني الإقليمي بين القوى المختلفة، للتعامل مع المهددات بشكل عام، وفي إطار الالتزام الأمريكي بالدفاع عن أراضي الحلفاء، وتشمل تلك المهددات الطائرات دون طيار والصواريخ الإيرانية، وعمليات تهديد الأمن الملاحي، والإرهاب من خلال زيادة الأصول العسكرية. ووفق ما طُرح خلال القمة فإن الولايات المتحدة بصدد التوسع أكثر مع الشركاء في المنطقة في بنية الأصول العسكرية، من أنظمة الدفاع الصاروخي المتطورة، وتطوير التكامل والاندماج في مجالات الدفاع الجوي والصاروخي، وقدرات الأمن البحري، ونظم الإنذار المبكر وتبادل المعلومات.

2- الانتشار وفق خريطة المهددات الجيوسياسية: وهو ما يظهر في طبيعة الانتشار العسكري الأمريكي بشكله الجديد، في إطار ما يعرف بعملية إعادة التموضع الأمريكي في الشرق الأوسط، بعد انتهاء حقبة الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، وإعادة إدراك واشنطن لأهمية الشرق الأوسط بالنسبة للسياسة الأمريكية، وهو ما يفرض نمطاً جديداً لشكل الانتشار أو التواجد الأمريكي لدعم الحلفاء، بالإضافة إلى أنماط التسلح الجديدة الملائمة لهذا الغرض، ولا يعتمد بالأساس على نقل قوات قتالية كبيرة العدد على أراضي الدول، وإنما يبدو أن هناك تنامياً لاتجاه نشر قوات تدخل سريع مثل فرقتي المهام المشتركة (159 – 53)، مع التركيز على نشرهما في مناطق معينة بالمنطقة، بالقرب من باب المندب، باعتباره كان يشكل في المرحلة السابقة فجوة في التغطية الأمنية بالمنطقة.

3- تزايد اللجوء إلى تكنولوجيا التسلح: والتي ظهرت بوادرها في التجارب التي أجرتها الولايات المتحدة لاستخدام أسلحة الليزر في العامين الأخيرين، لاستهداف المسيرات الجوية والبحرية في باب المندب، بالإضافة إلى ذلك تم تناول هذا البعد بشكل خاص في الاتفاقيات التي تم توقيعها بين الجانبين السعودي والأمريكي، والخاصة بتنمية القدرات الدفاعية، كما أشار الرئيس الأمريكي إلى هذه الخطوة بشكل عام في إطار تعرضه لتنمية الأصول الدفاعية المشتركة في الإطار الإقليمي.

4- تقويض الظواهر المرتبطة بالصراعات والأزمات: كظواهر الإرهاب، والمليشيات المسلحة، والجريمة المنظمة، كظواهر عابرة للحدود تحتاج إلى جهد مشترك، بالإضافة إلى الظواهر غير التقليدية، مثل: الأمن المائي، وأمن الطاقة، وأمن الممرات الملاحية، والمناخ؛ وهي ظواهر قابلة لتهديد المجتمعات من جهة، وإشعال صراعات وأزمات من جهة أخرى.

المسار العكسي

خلاصة القول، يعول على أن تشكل قمة الأمن والتنمية نقلة نوعية في الشراكة الاستراتيجية الأمريكية العربية (5+3)، للتعامل مع الصراعات الإقليمية، إذ وضعت خريطة طريق لملامح سياسية جديدة تتبنى وضع أسس لإنهاء الصراعات عبر تفعيل الحل السياسي، والتخلي عن الحل العسكري على اعتبار أن ظاهرة العسكرة شكلت أحد مداخل تفاقم الصراعات، كما اقترنت عملية الاستقرار لتعزيز الأمن الإقليمي بمقاربة التنمية، وهي مقاربة ذكية للشراكة الاستراتيجية متعددة الأطراف.

لكن ما حملته القمة من شفافية ووضوح لا ينفي استمرار العديد من التحديات في مسار الصراعات. فعلى سبيل المثال، جاء رد فعل المليشيا الحوثية في المسار العكسي لتوجهات القمة بالتلميح إلى عدم تجديد الهدنة، وهو رد فعل متوقع في سياق الموقف الإيراني من الدور الأمريكي في المنطقة، وقد يشمل الأمر ذاته الصراع السوري، والأزمة اللبنانية، فضلاً عن سيولة الوضع الليبي المفتوح على كافة السيناريوهات ومنها تجدد الصراع المسلح في ظل استمرار نفوذ المليشيات، الأمر الذي يفرض الإسراع في مسار الردع بمفهومه الشامل والمشترك على التوازي مع الجهد الدبلوماسي للتعاطي مع تلك الملفات.