كيف تشكل تيار إصلاحي صاعد في الفكر الإسلامي؟

القرآنيون:

كيف تشكل تيار إصلاحي صاعد في الفكر الإسلامي؟



لم يكن طرح تيار “القرآنيون” المتمثل في الاعتماد على القرآن باعتباره المصدر الوحيد للدين الإسلامي والمعرفة الإيمانية واستنباط الأحكام الشرعية، واتخاذ موقف من مصادر السنة النبوية، سواء القولية أو الفعلية أو كلتاهما؛ جديداً على تاريخ الفكر الديني الإسلامي؛ إذ تمتد جذور هذا الفكر إلى عهد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، قبل أن يتصاعد هذا الفكر عبر القرون الهجرية المتعاقبة.

ورغم اشتراك تيار “القرآنيون” في صورته الحديثة والمعاصرة مع بعض الأفكار الرافضة لكتب “السنة” باعتبارها تراثاً بشريّاً عبر التاريخ، فإن هذا التيار لا يُقِر بنسبة أفكاره إلى أي من الفرق والحركات القديمة، بل يعتبرون أنفسهم امتداداً لمدارس إصلاحية في الفكر الإسلامي، سبقتهم في محاولة نزع “القدسية” عن كتب التراث السني، باعتبارها جزءاً من الدين.

جذور تاريخية

تحفل كتب التاريخ الإسلامي، ولا سيما التي تعرضت لتاريخ الفكر الديني والفرق والمذاهب، بالإشارة إلى الجذور الأولى لفكرة الاعتراض على “السنة النبوية”، سواء الفعلية “العملية” أو “القولية” المرتبطة بالأحاديث النبوية خلال القرنين الهجريين الأول والثاني على وجه التحديد؛ وذلك قبل بلورة هذا الاتجاه في الفكر الديني تحت اسم “القرآنيون” في القرون اللاحقة. ويمكن تحديد الجذور التاريخية لهذا الفكر، وسياقات كل مرحلة، على النحو التالي:

1- بوادر أولية في عهد النبي محمد: يؤرخ الرافضون لفكر تيار “القرآنيون”، لجذور الاعتراض على السنة “القولية”؛ أي الأحاديث النبوية، بعهد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، أي في حياته؛ إذ ظهرت بعض الاتجاهات من قِبل عدد قليل من المسلمين في تلك الفترة، وتنوع الموقف من السنة النبوية بين الإنكار والاعتراض ورد بعضها وفقاً لرأي بعض المسلمين. وتتخذ بعض الكتابات الرافضة لهذا لتيار “القرآنيون” موقفاً شديداً من المعترضين على السنة في عهد النبي، ووصفتهم بـ”المنافقين”، مثل كتاب “القرآنيون العرب وموقفهم من التفسير – دراسة نقدية” للدكتور “جمال بن محمد بن أحمد هاجر”.

ولا يستدل أغلب المنتمين إلى تيار “القرآنيون” في العصر الحديث، بالجذور التاريخية لأفكارهم المتعلقة بالاعتراض على “السنة القولية”، بفترة حياة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، خاصةً أنها كانت حركة فردية لا تتسم بالمنهجية في الاعتراض على بعض ما يقوله النبي آنذاك. وتميل بعض الكتابات التاريخية إلى أنه اتجاه محدود، ولكن حذَّر منه النبي قبل وفاته، في حديث: “عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)”.

2- جدل “السنة القولية” عقب وفاة النبي: تستقر بعض الكتابات التاريخية، وروايات بعض المنتمين إلى تيار “القرآنيون”، على أن أفكار تيار “القرآنيون” في العصر الحديث، مستمدة من بعض الاتجاهات المعترضة على “السنة القولية” عقب وفاة النبي محمد، على اعتبار أن الحديث لم يُدوَّن خلال حياة النبي، وكان الصحابة ينسبون الأحاديث إلى النبي، وفقاً لتيار “القرآنيون” في التاريخ المعاصر.

تشير بعض الكتابات التاريخية، التي نقلت عن “الحسن البصري”، إلى قوله: “إن عمران بن حصين كان جالساً ومعه أصحابه يُحدِّثهم، فقال رجل من القوم: لا تحدِّثونا إلا بالقرآن، قال له عمران: ادنه، فدنا، قال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن؛ أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ في اثنتين؟! أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن؛ أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف بالصفا والمروة؟! ثم قال: أي قوم، خذوا عنا؛ فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلنَّ”.

ورغم أن الاعتراض على “الأحاديث” تصاعد عقب وفاة النبي، مقارنةً بحياته، فإن بعض الكتابات المحسوبة على من يُعرَفون بـ”أهل السنة”، تتطرَّق إلى تصدِّي الصحابة لهذا الاتجاه حتى تراجع في المجتمع المسلم آنذاك.

3- رفض اتجاهات للسُّنة بعد الفتنة الكبرى: ظهرت فرقة “الخوارج” في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، بعد أن وافق على التحكيم عقب موقعة صفين، خلال فترة ما تُعرف بـ”الفتنة الكبرى” في التاريخ الإسلامي، وتربط بعض الآراء المعارضة لأفكار “القرآنيون”، بين هذا التيار في التاريخ المعاصر وبين “الخوارج”، من الناحية الفكرية، باعتبار أن أفكار “الخوارج” وجدت طريقها إلى تيار “القرآنيون”، وتُعد أحد روافده الفكرية؛ إذ تشير الروايات التاريخية إلى أن “الخوارج” اعترضوا على بعض الأحاديث المروية، ووصْفهم بـ”مُنكِري السنة”، دون الحسم في مسألة إنكار “الخوارج” للسنة مصدراً تشريعيّاً ثانياً بعد القرآن الكريم.

وفي كتاب “القرآنيون وشبهاتهم حول السنة”، أشار إلى حديث “ابن تيمية” حول الخوارج بقوله: “وأصل مذهبهم تعظيم القرآن وطلب اتباعه، لكن خرجوا عن السنة والجماعة؛ فهم لا يرون اتباع السنة التي يظنون أنها تُخالِف القرآن، كالرجم ونصاب السرقة وغير ذلك”؛ إذ أنكر “الأزارقة” – وهم من “الخوارج” – الرجم الثابت في السنة الصحيحة، وفقاً لرأي “علماء السنة”، وبعض القضايا الأخرى، خاصةً مع رؤية “الخوارج” أنه لا يصح أخذ الدين عن الصحابة بعد اشتراكهم في الفتنة.

4- رفض المعتزلة آحاد السنة في العقيدة: ظهر “المعتزلة” بصفتها فرقة كلامية في بداية القرن الثاني الهجري، واعتمدت على “العقل لا النقل” في فهم الإسلام، واتخذ “المعتزلة” موقفاً من السنة، وانقسموا إلى قسمين: الأول يُوصَف بالتشدد في مواقفه، ويُجيز “احتمال الكذب في السنة بنوعَيها المتواتر والآحاد”، ومن ثم لا يمكن العمل بمقتضاها، كما اعتبروا أن “الأخبار المتواترة لا حجة فيها؛ لأنها يجوز أن يكون وقوعها كذباً”، فأبطلوا القياس، وطعنوا في الصحابة، وفقاً لكتاب “القرآنيون وشبهاتهم حول السنة”.

أما القسم الثاني، فيُصنَّف بأنه “أقل تشدُّداً” فيما يتعلق بالسنة؛ إذ “أنكروا بعضاً من السنة الآحادية، وصارت كل فرق المعتزلة تُقِر بذلك”. ومن أمثلة رفض بعض فرق المعتزلة لبعض السنة، عدم اعتراف “الجعفرية المبشرية” بإجماع الصحابة في إقامة الحد على شارب الخمر؛ نظراً إلى أن الحدود تعتمد على “النصِّ والتوقف”؛ إذ لم يعترفوا بالسنة الفعلية الواردة عن النبي في هذا الحد، كما أن المعتزلة لا يعترفون بما يحدث للإنسان بعد الموت، فرفضوا “المسألة القبرية”، ونفوا شفاعة النبي لأهل الكبائر.

5- إنكار السنة بالكلية نهاية القرن الثاني الهجري: شهدت نهاية القرن الثاني الهجري، نقطة تحول في الموقف من السنة؛ إذ ظهر مَن يدعو إلى إلغاء السنة بالكلية، ومن ثم عدم الاعتراف بها مصدراً تشريعيّاً لأحكام الإسلام؛ وذلك بعد الشبهات التي لحقت بها، عقب ظهور فرق إسلامية سابقة مثل “الخوارج والمعتزلة”.

ووفقاً لبعض الكتابات التاريخية حول الفرق في الإسلام، فإن المنتمين إلى هذا الفكر يعتبرون أن “القرآن احتوى بين دفتيه تبيان كل شيء، وتفصيل ما تحتاج إليه الأمة بما لا يدع مجالاً للسنة في دين الله”. ويعتمد هذا الفكر على أنه إذا جاءت أحكام جديدة في السنة (الظنية الثبوت) لم ترد في القرآن (القطعي الثبوت)، فإن الظني لا يقوى على القطعي، وإن جاءت مؤكدة ومؤيدة لحكم القرآن، فالأولى اتباع القرآن. ولمَّا كانت السنة تُروَى عن طريق رجال مع احتمال الكذب، فإن السنة مرحلة الظن. وأما حسن الظن بالراوي والمروي، فلا مقام له في الدين.

وتشير بعض الكتابات إلى أن هذا الفكر لا يقبل السنة المتواترة قطعيّاً؛ لأنه جاء عن طرق آحادها ظنية، ومن ثم يختلفون حول بعض القضايا مثل الصلاة وعددها وعدد الركعات. ويُصنَّف هذا الفكر بأنه أكثر تشدداً من “المعتزلة”. وبعد انتشار بعض الأفكار المناهضة للسنة التي بدأت تتصاعد وتتخذ مواقف متشددة منها، ظهر في القرن الثالث الهجري اتجاهات فكرية مناهضة تدعو إلى التمسك بالسنة، مثل “أبو الحسن الأشعري”، وخلال هذا القرن برزت بلورة مفهوم “أهل السنة”.

محطات مهمة

يعترف المنتمون إلى تيار “القرآنيون” بأن أفكارهم ليست جديدة على الفكر الديني الإسلامي، ولها جذور تاريخية. وبغض النظر عن اتفاقهم أو اعتراضهم على الروابط الفكرية ببعض الفرق التي اتخذت موقفاً من السنة، سواء الفعلية أو القولية، أو كلتاهما معاً، خلال القرنين الهجريين الأول والثاني، فإن ثمة روابط فكرية في التاريخ الإسلامي الحديث.

ويُلاحَظ أن التاريخ الإسلامي الحديث كان بداية بلورة مشروعات فكرية متنوعة، تُصنَّف بعضها بالمشروعات “الإصلاحية أو النهضوية أو التنويرية”، وهي التي وضعت أسس تيار “القرآنيون” في صورته الحالية في التاريخ المعاصر، وإن اختلفت المنهجيات بين المنتمين إلى هذا التيار. ونتطرق إلى أبرز محطات تيار “القرآنيون”، كالتالي:

1- بلورة تنظيمية في شبه القارة الهندية: منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، بدأت تتبلور بعض الأفكار المتعلقة بموقف مناهض لكتب “السنة” في شبه القارة الهندية، والتشكيك في صحة نسبتها إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وانتقلت الأفكار بين الهند وباكستان حتى بدايات القرن العشرين الميلادي.

وكان أحمد خان (1817–1898(، هو من أبرز مفكري هذا الاتجاه، وعُرِف بأنه صاحب مدرسة إصلاحية في الفكر الديني، واتخذ موقفاً من الأحكام الشرعية المستندة إلى مصادر “السنة”.

وتتطرق بعض الكتابات المناهضة لفكره إلى أنه “جعل الأحكام المستنبطة من السنة بوجه عام أحكاماً لا يجب على المسلمين اتباعها، وأن ما استخرج العلماء من نصوصها الحالية إنما هي أحكام اجتهادية ليست حتمية؛ لاحتمال ألا يكون ذلك المقصود من كلام النبي (صلى الله عليه وسلم)”؛ وذلك اعتماداً على احتمالات تغيير الألفاظ والعبارات المنسوبة إلى النبي، من دون معرفة صحة الألفاظ الأصلية، على قاعدة احتمالات خطأ الراوي في فهم الحديث؛ ما يؤدي إلى ضياع المعنى الصحيح، وفقاً لكتاب “السنة في مواجهة الأباطيل”.

كما برز عدد من المفكرين الذين يُصنَّفون بـ”الإصلاحيين”، مثل غلام نبي أو “عبد الله جكرالوي” (1830–1919) في باكستان، الذي أسَّس ما تُعرَف بـ”الحركة القرآنية” 1902، إضافةً إلى غلام أحمد برويز المولود في الهند 1903 وتوفي 1985، واعتبره البعض من تلاميذ محمد إقبال، ويُعَد من أبرز مُفكِّري ومُنظِّري تيار “القرآنيون” في التاريخ المعاصر.

وكانت إسهامات المفكرين المنظرين لتيار “القرآنيون” بصورته المعاصرة، نقطة تحول بالاتجاه إلى بلورة الفكرة إلى ممارسة، من خلال تأسيس مدارس وحركات هذا الفكر، مثل حركة “أهل الذكر والقرآن” التي تزعَّمها “جكرالوي”، كما أسس “برويز” فرقة “طلع إسلام” التي تُعد من أنشط الاتجاهات في تيار “القرآنيون” في باكستان.

2- تأثيرات فترة الإصلاح الديني عربيّاً: في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، برز اتجاه في المنطقة العربية، يدعو إلى إصلاح الفكر الديني، وإعادة النظر في كتب السنة التراثية. ورغم أن أقطاب هذه الحركة لم يتطرقوا إلى مسألة إنكار السنة مصدراً تشريعيّاً، فإنهم اصطدموا يبعض الأحاديث، وردُّوها إما إلى أنها لا تتفق مع العقل، أو أنها أحاديث آحاد تُفيد الظن، وتتجه بعض الكتابات إلى تصنيفهم بأنهم ينتمون إلى المدرسة العقلية في السنة النبوية.

واعتبر بعض أقطاب هذه الحركة، أن الحديث على فرض صحته هو آحاد، وأحاديث الآحاد لا يُؤخَذ بها في باب العقائد، ومنهم تفرَّعت بعض الاتجاهات التي شكَّكت في بعض كتب “السنة”؛ لتعارضها مع النصوص القرآنية.

3- ظهور اتجاهات معاصرة في القرن العشرين: ورغم أن أفكار تيار “القرآنيون” لم تنقطع، فإنه خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم، تبلورت أجيال جديدة من المنتسبين إلى هذا الفكر الديني، وقدموا قراءات بعضها متأثر بمواقف بعض التيارات والفرق والمفكرين السابقين، إلا أنها قدمت منهجها الخاص في تصور الإسلام وتفسير آياته. وتعدَّدت أشكال التجمعات المُنظِّمة لأطر عملهم، وبدأ مصطلح “القرآنيون” أو “أهل القرآن” في الرواج عربيّاً، وتُنسَب بعض الكتابات الدكتور محمد شحرور إلى تيار “القرآنيون”، بفعل ما قدمه من إسهامات في تفسير القرآن وإصدار عدد من الكتب في هذا الإطار.

وامتداداً لفكر هذا التيار، ظهرت بعض التكتلات الجديدة، مثل “حركة المفكرين الحنفاء” التي تضم بعض الشخصيات والباحثين المؤمنين بأن القرآن هو المصدر الوحيد لدين الإسلام والأحكام الشرعية، وقدموا مشروعاً فكريّاً في هذا الإطار، للتعبير عن حركتهم عام 2021.

ويعيش عدد من المنتمين إلى هذا التيار في أوروبا، مثل “سامر إسلامبولي، وإديب يوكسيل، وزكريا أوزون، وأصلان موسين”، ويمارسون نشاطهم الدعوي لهذا الفكر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إضافةً إلى تأسيس بعضهم مواقع إلكترونية خاصة بهم لنشر أفكارهم، كما يعيش بعض الباحثين داخل هذا التيار في أمريكا، ويُنظِّمون مؤتمرات لنشر أفكارهم.

وختاماً، يتضح أن فكرة الاعتراض على السنة القولية أو الفعلية المنسوبة إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ليست وليدة تيار “القرآنيون” بصورته الحديثة أو المعاصرة، بل تمتد إلى جذور تاريخية أخذت تتشكل منذ عهد النبي، وتصاعدت عقب وفاته. ورغم عدم انقطاع هذا الفكر الديني خلال التاريخ الإسلامي، فإنه يبرز ويخفت من فترة إلى أخرى؛ بفعل عوامل متعددة، ووفقاً لظروف وسياقات كل فترة زمنية. في المقابل، فإن بعض الرافضين لتيار “القرآنيون” يميلون إلى وصفهم بـ”المنافقين”، وبأنهم “يرددون شبهات الكفار”، فيما ترى بعض الكتابات التاريخية أن ظهور هذا التيار يرتبط بسياقات قلقة في التاريخ الإسلامي، مع تعدُّد الفرق والمذاهب، ومنها فترة الاستعمار خلال القرن التاسع عشر الميلادي، واتجاه بعض المفكرين إلى عملية التحديث في الفكر الديني، متأثرين بالأفكار الغربية.