رسائل توقيف شبكات التجسس الإيرانية في تركيا

أهداف مختلفة:

رسائل توقيف شبكات التجسس الإيرانية في تركيا



أعلنت تركيا، في 11 فبراير الجاري، عن نجاح أجهزة الاستخبارات إحباط خطة إيرانية سرية لاغتيال رجل الأعمال الإسرائيلي يائير جيلير، وهو ملياردير حاصل على الجنسية التركية، وله استثمارات في صناعات الآلات والصناعات الدفاعية، فضلاً عن توقيف 14 شخصاً للاشتباه في تعاونهم مع المخابرات الإيرانية لتنفيذ خطط لاختطاف معارضين إيرانيين موجودين على الأراضي التركية. وتُعتبر هذه الضربة هي الثانية من نوعها خلال الشهور التي خلت، حيث جاءت الأولى في 13 أكتوبر الماضي إذ تم توقيف شبكة عملاء تابعة لإيران مكونة من 8 أفراد حاولت تهريب عسكري إيراني سابق إلى طهران عبر ولاية وان شرقي تركيا. هذا بالإضافة إلى شكوك أخرى يبديها المراقبون من احتمال أن يكون السلوك التركي يمثل محاولة للضغط على إيران بعد تكرار تراجع إمداد الغاز الإيراني المصدّر إلى تركيا خلال الفترة الماضية، وكان آخرها في نهاية يناير الماضي.

توقيت لافت

يأتي كشف النقاب عن تورط إيران في عملية اغتيال رجل الأعمال الإسرائيلي، وتوقيف شبكة تجسس على معارضين إيرانيين في توقيت لافت، حيث يتزامن مع إبداء تركيا اهتماماً خاصاً برفع مستوى العلاقات الثنائية مع إسرائيل، وهو ما بدا جلياً في إعلان الرئيس التركي عن زيارة محتملة لنظيره الإسرائيلي خلال الشهر الجاري، إضافة إلى توجيه الرئيس التركي في 26 يناير الماضي رسالة مفتوحة في اليوم العالمي للهولوكوست دعا فيها إلى عدم تكرار تلك المآسي. ويثير التقارب التركي مع إسرائيل في هذا التوقيت مخاوف إيران، في ظل تصاعد التوتر الإيراني الإسرائيلي، وتهديد الأخيرة بشن عملية عسكرية ضد مواقع إيرانية، ناهيك عن حدود نتائج الجولة السابعة من المفاوضات النووية التي بدأت نهاية ديسمبر الماضي، وتصاعد الشكوك الغربية إزاء سلوك إيران.

وبالتوازي مع ذلك، فإن كشف النقاب عن خلايا التجسس يتزامن مع مساعي أنقرة لتعزيز مساحات التفاهمات مع دول الخليج، خاصة مع تحولات موقف تركيا تجاه العواصم الخليجية، وسعيها لفتح قنوات مع الإمارات والبحرين والسعودية، وهي الدول التي تتهم إيران بدعم الإرهاب الحوثي.

في المقابل، فإن كشف النقاب عن خلايا التجسس الإيرانية على الأراضي التركية لا ينفصل عن تصاعد حالة الغضب في أوساط تيار المعارضة التركية من السلوكيات الإيرانية، وتوظيف هذه الخلايا انتخابياً، خاصة أن المخابرات الإيرانية كثفت من أنشطتها على الأراضي التركية ولا سيما في عمليات ملاحقة واغتيال معارضين إيرانيين.

في هذا السياق، فإن توقيف خلايا التجسس الإيرانية، وفضح السلوكيات الإيرانية تجاه الإسرائيليين المقيمين على الأراضي التركية؛ يتوافق في هذه المرحلة مع المصالح التركية، لا سيما في ظل مساعي تركيا لإصلاح علاقاتها مع تل أبيب، والعواصم الخليجية.

دلالات متعددة

تشير اتجاهات عديدة إلى أن كشف خلايا التجسس الإيرانية على الأراضي التركية، وتورط إيران في محاولة اغتيال رجل الأعمال الإسرائيلي-التركي يائير جيلير؛ تحمل دلالات عديدة، يمكن بيانها على النحو التالي:

1- توجهات السياسة التركية نحو التقارب مع إسرائيل: تشير العديد من التحليلات إلى أن السبب الرئيسي في إعلان تركيا عن خلايا التجسس الإيرانية على أراضيها والتورط في اغتيال شخصيات إسرائيلية تنشط داخل تركيا، يعود إلى اتجاه تركيا نحو إبداء اهتمام خاص بتعزيز التقارب مع إسرائيل، والقفز على القضايا الخلافية بين البلدين، التي شهدت تدهوراً كبيراً في عام 2018. وفي هذا الإطار، بادر وزير الخارجية التركي بالاتصال بنظيره الإسرائيلي في 20 يناير الماضي، وهي أول مكالمة هاتفية بين وزيري خارجية إسرائيل وتركيا منذ 13 عاماً، كما التقى الرئيس أردوغان أعضاء من الجالية اليهودية-التركية وتحالف الحاخامات في الدول الإسلامية في القصر الرئاسي في ديسمبر الماضي.

على جانب آخر، فإن إثارة قضية خلايا التجسس الإيرانية في الأوساط الإعلامية التركية يبدو رسالة طمأنة إلى العواصم الخليجية، في ظل مبادرات تركية متلاحقة تهدف إلى تحسين العلاقات مع منطقة الخليج، وظهر ذلك في إدانة تركيا في 30 يناير الماضي إطلاق جماعة “الحوثي” اليمنية صاروخاً باليستياً تجاه الإمارات، وأشار وزير الخارجية التركي خلال مؤتمر صحفي إلى أن “بلاده تُدين بشدة الهجمات على أبو ظبي، معرباً عن تضامن تركيا مع الإمارات والسعودية ضد أي أنشطة إرهابية”.

2- قطع إيران إمدادات الغاز المخصصة لتركيا: تُشير العديد من التحليلات إلى أن الاستثمار التركي في خلايا التجسس الإيرانية يأتي في سياق غضب أنقرة من قطع إيران المتكرر إمدادات الغاز المخصصة لتركيا، حيث أوقفت طهران الغاز بشكل مفاجئ إلى تركيا، وتزامنت الخطوة الإيرانية مع موجات الصقيع التي ضربت إسطنبول وعدد من المحافظات التركية، وهو الأمر الذي دفع حكومة العدالة والتنمية إلى وقف عدد من المصانع وخطوط الإنتاج لضمان تدفق استمرار الغاز إلى المنازل.

والأرجح أن قطع الغاز زاد قلق تركيا، وتصاعدت الهواجس التركية مع تقديم طهران مبررات واهية، منها أن تراجع ضخّ الغاز سببه عطل فني في محطة لتعزيز الضغط في تركيا، كما نفت تركيا ادعاء إيران بعودة ضخ الغاز للمحطات التركية إلى طبيعته، وأكدت أنقرة في يناير الماضي أن الإمدادات من الغاز الإيراني ما زالت أقل من الكميات المطلوبة والمتفق عليها..

3- تحشيد الجبهة الداخلية لمواجهة تحركات المعارضة التركية: يمكن اعتبار البُعد الداخلي عاملاً مؤثراً أيضاً، حيث جاء كشف النقاب عن خلايا التجسس الإيرانية، وعملية اغتيال رجل الأعمال الإسرائيلي، مع تصاعد انتقادات المعارضة لهذه الأنشطة الإيرانية، واتهام الأجهزة الأمنية بالتقصير، ووظّفت المعارضة التركية نجاحات نوعية لهذه الخلايا لصالحها انتخابياً؛ ومن ثمّ فإن الرئيس التركي يسعى إلى التأكيد على قدرات أجهزة الاستخبارات التركية في تعقب خلايا التجسس الإيرانية، وإفشال عملياتها لمواجهة انتقادات المعارضة لسياسته.

كما يتم استثمار توقيف خلايا التجسس الأجنبية لتعزيز شعبيته التي تراجعت، وهو التراجع الذي يتزامن مع اقتراب انتخابات مفصلية مقرر لها منتصف العام القادم. كما يبدو -في هذا السياق- أن تركيا تعول على استثمار الكشف عن هذا النوع من الخلايا لإيصال رسالة للقواعد التقليدية المحافظة في الداخل التي تمثل عصب الكتلة التصويتية للعدالة والتنمية، بأن تركيا عاصمة الخلافة السنية لا تزال قادرة على مواجهة عدوها التاريخي والأيديولوجي (إيران الشيعية).

4- استيعاب الانتقادات الإسرائيلية والغربية لتركيا: تستمر إسرائيل في توجيه الانتقادات لتركيا بسبب حملاتها الإعلامية ضد تل أبيب، وتحريضها على السياسات الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، وآخرها تأكيد وزير الخارجية التركي (في 10 فبراير الجاري) بأن تطبيع بلاده مع إسرائيل لا يعني تغييراً في سياسة أنقرة تجاه فلسطين. كما تصاعدت المخاوف الإسرائيلية بعد مطالبة تركيا (في 24 نوفمبر الماضي) بوضع حد لسياسات إسرائيل الاستيطانية، حيث دعا أردوغان في خطابه أمام الاجتماع الوزاري السابع والثلاثين للجنة الدائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري (الكومسيك)، التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي، إلى ضرورة “وضع حدٍّ لسياسات إسرائيل في الاستيطان غير القانوني والتدمير والتهجير القسري والمصادرة والإخلاء في القدس الشرقية والضفة الغربية”، وأضاف: “مصممون على الدفاع عن قضيتنا الفلسطينية حتى النهاية”.

في المقابل، لا تزال تركيا تواجه اتهامات بمساعدة إيران لاختراق العقوبات الدولية المفروضة عليها بسبب برنامجها النووي، وظهر ذلك في رفض محكمة استئناف أمريكية بنيويورك في أكتوبر الماضي محاولة “بنك خلق” رفض لائحة اتهام تتهم البنك التركي “خلق” بمساعدة إيران في التهرب من العقوبات الأمريكية. هنا، يمكن فهم توجه أنقرة إلى توظيف خلايا التجسس التي عملت لصالح إيران بهدف تخفيف حدة الانتقادات الإسرائيلية والغربية.

علاقات متشابكة

ختاماً، يمكن القول إن كشف النقاب عن خلايا التجسس الإيرانية على الأراضي التركية، وإظهار التورط الإيراني في عملية اغتيال رجل الأعمال الإسرائيلييائير جيلير؛ قد يسهم على المدى القريب في حدوث انفراجة نوعية في إطار العلاقات التركية الإسرائيلية من جهة، وتحفيز عملية التقارب التركي الخليجي من جهة أخرى. لكن في المقابل، قد يطفو التوتر على سطح العلاقة بين أنقرة وطهران رغم محاولات أخيرة شهدها البلدان لتجاوز التوترات التي وصلت إلى الذروة بعد تصاعد الحضور التركي في أذربيجان، وتوجيه أنقرة انتقادات حادة لطهران بعد سماح الأخيرة للمهاجرين الأفغان بالعبور إلى تركيا بعد سيطرة حركة طالبان على مفاصل السلطة في أفغانستان في أغسطس الماضي.