تحديات إقليمية عديدة في مواجهة إيران

أزمات متوازية:

تحديات إقليمية عديدة في مواجهة إيران



ربما لم تشهد إيران من قبل هذا المستوى من الضغوط الإقليمية التي تتعرض لها في الوقت الحالي. فقد بدأت الأزمات تتصاعد بالقرب من حدودها بشكل غير مسبوق، على نحو دفعها إلى توجيه رسائل تحذيرية عبر استعراض قدراتها العسكرية. واللافت في هذا السياق، هو أن هذه الضغوط “المتوازية” تأتي في وقت تواجه إيران أزمة اقتصادية داخلية تتفاقم تدريجياً، بسبب العقوبات الأمريكية، خاصة في ظل غموض المسارات المحتملة التي يمكن أن تنتهي إليها المفاوضات التي قد تستأنف مع مجموعة “4+1” بمشاركة غير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في فيينا وتهدف إلى تعزيز استمرار العمل بالاتفاق النووي الحالي. ويمكن تفسير ذلك في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في تراجع رهانات طهران في بعض الملفات، على غرار الملف الأفغاني، وتزايد القلق “التاريخي” من تصاعد النزعة القومية في بعض الدول، مثل أذربيجان، بالتوازي مع بروز اتجاه مناوئ للتدخلات الإيرانية في بعض الدول بدأ يفرض معطيات جديدة على الأرض كما حدث في العراق مؤخراً، واتجاه عربي داعي للانفتاح على سوريا مجدداً.

مؤشرات عديدة

مع وصول الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي إلى السلطة وتسلمه مقاليد منصبه في 5 أغسطس الماضي، سعى إلى توجيه رسائل عديدة مفادها أن حكومته سوف تتبنى سياسة خارجية جديدة تمنح الأولوية للعلاقات مع دول الجوار. وفي الواقع، فقد بدأت الحكومة بالفعل في اتخاذ خطوات إجرائية في هذا السياق. لكن بالتوازي مع ذلك، كان لافتاً أن ثمة تطورات عديدة طرأت على الساحة الإقليمية خلال الشهرين الأخيرين بدأت تفرض تداعيات عكسية على علاقات إيران مع بعض تلك الدول، وهو ما يمكن تناوله في المؤشرات التالية:

1- تزايد قلق طهران من التطورات في أفغانستان: عندما تمكنت حركة “طالبان” من دخول العاصمة الأفغانية كابول في 15 أغسطس الماضي، بدا رد الفعل الإيراني مهادناً إلى حد كبير، على نحو جرى تفسيره في ضوء التفاهمات الأمنية التي توصلت إليها طهران مع الحركة خلال الفترة الماضية. لكن هذا الموقف الإيراني بدأ يتغير تدريجياً من محاولة “احتواء” الحركة التي عادت مجدداً إلى السلطة إلى إبداء قلق واضح تجاه السياسات التي بدأت في اتباعها على الصعيد الداخلي، لاسيما ما يتصل بعلاقاتها مع المكونات المجتمعية الأخرى التي سعت إيران إلى إشراكها في الحكم، إلا أن إصرار “طالبان” على الاستفراد به، على نحو بدا جلياً في حرصها على إنهاء ما أطلقت عليه “تمرد” إقليم بانشير، وجّه رسالة إلى إيران مفادها أن التفاهمات بين الطرفين لها حدود على الأرض تفرضها الأجندة الخاصة بالحركة، التي قد لا تشهد تغييراً كبيراً، إزاء إيران تحديداً، عن ما كانت عليه قبل سقوط حكمها في المرة الأولى عام 2001.  

2- تصاعد تأثير النزعة القومية في أذربيجان: وهو ما بدأ خلال الجولة الأخيرة للصراع العسكري مع أرمينيا حول إقليم ناجورني قره باغ في الفترة من 27 سبتمبر حتى 10 نوفمبر 2020، على نحو انعكس في التظاهرات التي شهدتها المناطق التي تقطنها القومية الآذرية الإيرانية دعماً لأذربيجان، لاسيما مدينة تبريز عاصمة محافظة أذربيجان الغربية. ورغم أن إيران حاولت تبني سياسة أكثر توازناً خلال تلك الفترة، من أجل تجنب تصاعد حدة التوتر في علاقاتها أذربيجان، بشكل كان من الممكن أن يفرض تداعيات على الساحة الداخلية، فإنها لم تلتزم بهذه السياسة خلال التوتر الأخير الذي طرأ على هذه العلاقات، عندما بدأت في شن حملة قوية ضد الأخيرة عبر اتهامها بمنح موطئ قدم لإسرائيل على حدودها، وانعكس ذلك في إجراء مناورات عسكرية متبادلة بين الطرفين، مع توجيه تهديدات من جانب إيران بأنها “لن تستطيع تحمل أى تغيير يطرأ على الحدود”.

3- اتساع نطاق الخلافات الإقليمية مع تركيا: وذلك بسبب السياسة التي تتبناها الأخيرة تجاه بعض الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام خاص من جانب إيران. فقد تدخلت تركيا عسكرياً إلى جانب أذربيجان في الجولة الأخيرة من الصراع مع أرمينيا على إقليم ناجورني قره باغ. لكن الأخطر من ذلك بالنسبة لإيران يتمثل في إبرام تركيا وأذربيجان اتفاقية أمنية جديدة تحت اسم “إعلان شوشا”، خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى باكو في 15 يونيو الماضي. وكان لافتاً أن أردوغان ألمح إلى إمكانية تأسيس قاعدة عسكرية تركية في أذربيجان في إطار تلك الاتفاقية، وهو ما لم يقابل برد فعل إيجابي من جانب إيران أو روسيا، وإن كانت الأخيرة هى التي بدأت في توجيه رسائل مضادة لهذا التحرك التركي بالقرب من حدودها. واللافت في هذا السياق، هو أن باكستان بدت أقرب إلى المحور التركي- الآذري، على نحو انعكس في مشاركتها في المناورة العسكرية “الأخوة الثلاثة” التي أجريت في الفترة من 12 إلى 20 سبتمبر الفائت، على نحو يضيف ضغوطاً إقليمية لا تبدو هينة على طهران.  

4- استمرار التنسيق الروسي- التركي في سوريا: لا تبديإيران رد فعل إيجابياً إزاء استمرار التنسيق الروسي- التركي في سوريا، والذي بدا جلياً في قمة سوتشي التي عقدت بين الرئيسين الروسي فيلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، في 29 سبتمبر الفائت. ورغم أن إيران طرف مشارك في ما يسمى بـ”مسار الأستانة” إلا أنها ترى أن حرص موسكو وأنقرة على استمرار التنسيق “الثنائي” تجاه الملف السوري، يوجه رسائل مباشرة لها، مفادها أن الأولى تحديداً تسعى إلى تأكيد نفوذها باعتبارها القوة الرئيسية التي تستطيع تحديد اتجاهات الصراع في سوريا، من خلال تأسيس قنوات تواصل مع خصوم طهران على الساحة السورية، على نحو ما يحدث فيما يتعلق بالتفاهمات بين روسيا وكل من تركيا وإسرائيل، حيث ترى الأخيرة أن هذه التفاهمات تمثل آلية مهمة لمواجهة التمدد الإيراني داخل سوريا، من خلال توجيه ضربات مستمرة للمواقع التابعة لإيران والنظام السوري والميليشيات الموالية لهما. ومن دون شك، فإن التمدد الإيراني في سوريا سوف يكون أحد محاور المباحثات التي سوف يجريها رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في موسكو خلال الزيارة التي سيقوم بها في نهاية الأسبوع القادم حسب ما أعلن الكرملين في 12 أكتوبر الجاري.

5- تزايد خطوات الانفتاح العربي على سوريا: وهو ما بدا جلياً في الاجتماعات الوزارية الأخيرة التي حضرها مسئولون سوريون لمناقشة سبل مد لبنان بالطاقة عبر الأراضي السورية، على نحو يوحي بأن ثمة توجهاً عربياً للانفتاح على سوريا. فقد عقد اجتماع رباعي لوزراء الطاقة في دول “خط الغاز العربي” وهي مصر والأردن وسوريا ولبنان في عمّان، في 8 سبتمبر الفائت، لمناقشة سبل إيصال الغاز المصري إلى لبنان عبر الأردن وسوريا. وعقد اجتماع آخر في العاصمة الأردنية، في 6 أكتوبر الحالي، بين وزراء الطاقة في الأردن وسوريا ولبنان، لمناقشة تزويد الأردن للبنان بالطاقة الكهربائية عبر الأراضي السورية.

6- تراجع نفوذ القوى الموالية في العراق: على نحو ما كشفت عنه نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 10 أكتوبر الجاري. فقد تراجع عدد المقاعد التي حصل عليها تحالف “الفتح”- أبرز حلفاء إيران- من 47 مقعداً في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في عام 2018 إلى 14 مقعداً في الانتخابات الأخيرة. وجاء ائتلاف “دولة القانون” بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي في المرتبة الثالثة بحصوله على 37 مقعداً. في مقابل ذلك، حصل التيار الصدري على المركز الأول بـ73 مقعداً، وجاء تحالف “تقدم” السني برئاسة رئيس البرلمان المنتهية ولايته محمد الحلبوسي في المركز الثاني بـ38 مقعداً. وهنا، فإن هذه النتائج توحي بأن تأثير التيار المناوئ للتدخلات الإيرانية- أو على الأقل الداعي إلى إنهاء تحويل العراق إلى ساحة للصراع الإقليمي، وإلى تعزيز العلاقات العربية العراقية- بدأ يتصاعد على الساحة العراقية، على نحو سوف يدفع طهران إلى إعادة ترتيب حساباتها من جديد بناءً على التوازنات الجديدة التي فرضتها نتائج الانتخابات، وإن كان ذلك لا ينفي أن القوى الموالية لها ما زالت تمتلك نفوذاً على الساحة السياسية.

استحقاقات صعبة

ختاماً، يمكن القول إن إيران تبدو مقبلة على استحقاقات استراتيجية صعبة نتيجة التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية خلال الفترة الأخيرة، والتي بدأت تفرض تداعيات لا تبدو هينة على مصالحها وطموحاتها الإقليمية.