إلى أي مسار تقود التمويلات الأجنبية حركة النهضة في تونس؟

تشرذم محتمل:

إلى أي مسار تقود التمويلات الأجنبية حركة النهضة في تونس؟



فيما تتواصل التحقيقات الخاصة بالكشف عن التمويلات الأجنبية التي حصلت عليها حركة النهضة، شهد المقر الرئيسي لحركة النهضة بحي “مونبليزير” الواقع شرقي العاصمة تونس، حريقاً هائلاً في 8 ديسمبر 2021، إثر قيام أحد منتسبي الحركة (سامي السيفي 50 عاماً، سجين سابق كان يعمل لدى الحركة قبل أن يتم طرده منها) بإضرام النار في نفسه مما تسبب في اندلاع النيران في الطابق الأول وامتدادها لطوابق ومكاتب في البناية الخاصة بالمقر الرئيسي للحركة، وأسفرت عن مقتل شخص وإصابة 18 آخرين بإصابات مختلفة.

سياقات ضاغطة

تزامنت التحقيقات الخاصة بحصول حركة النهضة على تمويلات أجنبية، مع سياق ما تواجهه الحركة من متغيرات عدة، ومن أبرزها ما يلي:

1- حدوث انشقاقات داخلية: حيث تعاني الحركة على مدار الأشهر الخمسة الأخيرة حالة من الانقسامات داخل هياكلها، وانقسام الأعضاء بين مؤيد ومعارض للإجراءات الاستثنائية التي فرضها رئيس الدولة “قيس سعيد” في يوليو الماضي، وأيضاً انقسامهم حول تحميل القيادة الحالية للحركة “راشد الغنوشي” مسؤولية تدهور الأوضاع السياسية التي تشهدها البلاد خلال السنوات الأخيرة، حتى إن حادث إحراق المقر الرئيسي للحركة جاء بعد رفض “الغنوشي” استقبال عدد من أعضاء الحركة وموظفيها للنظر في مطالبهم، مما دفع عضو الحركة إلى إحراق نفسه وإحراق مقر النهضة على هذا النحو.

2- تقديم استقالات جماعية: شهدت الفترة الأخيرة تقديم العشرات من أعضاء وقيادات حركة النهضة استقالاتهم بشكل جماعي من عضوية الحركة، وكان آخرها إعلان 16 عضواً من مجلس شورى الحركة في 6 ديسمبر الجاري تعليق عضويتهم في المجلس ولجان المؤتمر القادم، بسبب ما أطلقوا عليه فقدان هذه المؤسسة وظيفتها الرقابية واستقلالية قرارها وتحولها إلى لجنة وظيفية ملحقة بالمكتب التنفيذي للحركة، إضافة إلى استقالة 113 عضواً في سبتمبر الماضي من بينهم قيادات في البرلمان المُجمد، وذلك تعبيراً عن رفضهم الاستمرار في عضوية الحركة بسبب عدة عوامل من أبرزها الفشل في عملية الإصلاح الداخلي للحركة، والديكتاتورية في اتخاذ القرارات ورفض رئيس الحركة “راشد الغنوشي” تقديم استقالته وإفساح المجال أمام قيادات جديدة لتولي رئاسة الحركة، بالإضافة إلى رفض السياسات التي انتهجتها القيادات العليا للحركة برئاسة “الغنوشي” وتسببت في تأزم الأوضاع السياسية بالبلاد.

3- طرح مبادرة للحوار الوطني: حيث جاء حادث إحراق المقر الرئيسي لحركة النهضة بعد أيام قليلة من طرح رئيسها “راشد الغنوشي” مبادرة تضمنت إجراء حوار وطني موسّع بين كافة الأحزاب والقوى السياسية والمدنية تحت مظلة البرلمان، والمطالبة بإنهاء الإجراءات الاستثنائية بما فيها إنهاء تعليق عمل البرلمان، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، وذلك في إطار مناورات حركة النهضة لتوظيف حالة عدم الرضا الشعبي المتزايدة ضد استمرار الأوضاع الاستثنائية في البلاد، لمصلحة الخروج من أزماتها الداخلية، ومحاولة إعادة ترتيب صفوفها، وتجنب الانزلاق نحو الانهيار الكامل.

فساد ماليّ

جاء حريق المقر الرئيسي لحركة النهضة في الوقت الذي تواجه فيه الحركة اتهامات بتلقّيها تمويلات أجنبية مجهولة المصدر، وعقد الحركة “مجموعة ضغط” في شهر يوليو الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية للضغط على الرئيس “سعيد” للرجوع عن قراراته الاستثنائية، وذلك إلى جانب اتهامها بعدد آخر من الاتهامات التي أثارت الرأي العام ضدها ومطالبته بإقصائها عن الحياة السياسية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- تلقّي تمويلات أجنبية: كشفت التحقيقات التي يُشرف عليها الرئيس “قيس سعيد” بنفسه في إطار حربه ضد الفساد بشتى صوره خلال الفترة الأخيرة، عن تلقّي الحركة تمويلات أجنبية من عدة جهات خارجية، والتآمر ضد الدولة، وذلك عبر التنسيق بين إحدى شركات الاتصالات الاقليمية وبنك “الزيتونة” التونسي حيث تملك الأولى غالبية أسهم الأخير، هذا بالإضافة إلى الاستعانة ببعض المنظمات الاقليمية التي تعمل ظاهرياً في مجال التدريب الديمقراطي وهي في الحقيقة تقوم بتمويل رئيس الحركة “الغنوشي” وعدد من قيادات الحركة المساعدين له من أجل تعزيز وضع الحركة في الحياة السياسية التونسية.

2- تلاعب في الانتخابات البرلمانية: حيث تواجه حركة النهضة كذلك اتهامات بالتلاعب في عملية التصويت التي جرت في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في عام 2019 وأسفرت عن فوز الحركة بالمرتبة الأولى في النتائج النهائية لهذه الانتخابات بحصوله على 52 مقعداً في البرلمان المؤلف من 217 مقعداً، واتهام الحركة بارتكاب مخالفات ساعدتها على تحقيق هذه النتائج وقتها، منها شراء أصوات الناخبين لصالح مرشحي الحركة، وتُشير التقارير التونسية إلى تلقي بعض قيادات الحركة تمويلات خارجية بلغت قيمتها حوالي 50 مليون دولار عام 2019 لهذا الغرض تحديداً، وذلك بهدف تأمين بقاء “الغنوشي” في المشهد السياسي التونسي.

3- التآمر ضد الدولة مع جهات خارجية: إذ أثار الكشف عن مجموعة الضغط التي قامت حركة النهضة بتشكيلها في الولايات المتحدة الأمريكية ودفع أموال طائلة لممارسة ضغوط ضد الرئيس “قيس سعيد” للعدول عن الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها في يوليو الماضي، وهو ما دفع الرئيس “سعيد” في مناسبات مختلفة لاتهام أطراف داخلية -في إشارة للنهضة- بالتآمر مع جهات أجنبية ضد الدولة لزعزعة استقرارها وإسقاط الدولة التونسية، خاصة أن لقيادات الصف الأول لحركة النهضة علاقات متعددة مع أطراف إقليمية ودولية مثل والولايات المتحدة وبريطانيا، بشكل يثير قلق القيادة السياسية التونسية إزاء تصاعد ضغوط وتدخلات هذه الدول في الشؤون الداخلية للبلاد تحت اسم “حماية المسار الديمقراطي”.

4- تورط في الفساد السياسي: خلال الفترة 2019 – 2021 عبر احتكار العمل السياسي وتهميش باقي الأحزاب السياسية وخاصة المعارضة لها، مع منح الأولوية للأحزاب السياسية المتحالفة معها وخاصة حزبي “قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة”، وامتد الأمر ليصل إلى اعتداء أعضاء التحالف النيابي داخل البرلمان على معارضيهم (مثل اعتداء عضو ائتلاف الكرامة “سيف المخلوفي” على رئيسة الحزب الدستوري الحري “عبير موسى” داخل البرلمان في أكتوبر 2020) وهو ما أدى إلى تزايد حدة انتقادات باقي الأحزاب السياسية المعارضة لها، ودفعها للكشف عن صور الفساد الذي تورطت فيه حركة النهضة خلال توليها السلطة طوال السنوات العشر الأخيرة، بما في ذلك زرع الموالين لها أيديولوجياً في كافة مؤسسات الدولة العميقة، ولا سيما المؤسسات الأمنية كوزارة الداخلية، وهو ما دفع الرئيس “سعيد” لإطلاق مصطلح “تطهير مؤسسات الدولة” بما في ذلك قراراته الأخيرة التي شملت تغيير العديد من القيادات الأمنية بوزارة الداخلية من الموالين لحركة النهضة.

5- تورط في الاغتيالات السياسية: كشفت التحقيقات الخاصة بملفات الفساد المتورطة فيها حركة النهضة، تورط جهازها السري في اغتيال بعض النشطاء السياسيين والصحفيين مثل “محمد البراهمي” و”شكري بلعيد” عام 2013، وتوجيه القضاء التونسي اتهاماً رسمياً لبعض منتسبي الحركة (مصطفى خذر المسؤول عن الجهاز السري للحركة – عامر البلعزي المشترك في جريمة الاغتيال) وتم اعتقالهما في يوليو 2020، حيث اتُّهم الأول بالامتناع عن تقديم معلومات حول ارتكاب إحدى الجرائم الإرهابية، والثاني بتهمة المشاركة في تنفيذ جريمة الاغتيال، وباعتقالهما ثبت تورط الجهاز السري الذي أنشأته حركة النهضة في تنفيذ جرائم اغتيالات وجرائم إرهابية داخل البلاد.

مسالك حكومية

أدى الحديث عن تورط حركة النهضة في جرائم فساد مالي بحصول بعض قياداتها على تمويلات أجنبية، إلى قيام الرئيس “قيس سعيد” وحكومته باتخاذ عدة إجراءات تهدف للكشف عن فساد حركة النهضة أمام الرأي العام التونسي، وتمثلت أبرز هذه الإجراءات في التالي:

1- إجراء تحقيقات عاجلة: حيث أصدر الرئيس “قيس سيعد” توجيهاته للقضاء التونسي بالتحقيقات العاجلة في الاتهامات الموجهة إلى حركة النهضة في هذا الخصوص، وتمثلت النتيجة الرئيسية لتلك التحقيقات في إصدار “محكمة المحاسبات” الخاصة بالكشف عن نتائج التحقيقات الخاصة بتورط أعضاء وقيادات حركة النهضة في الانتهاكات والمخالفات التي ارتكبتها في انتخابات 2019، واشتمل التقرير على اتهامات لعدد من أعضاء الحركة بتلقي تمويلات أجنبية لمساعدتهم على خوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة.

2- متابعة الرئيس للمحاكمات القضائية: فبعد صدور التقرير الخاص بمحكمة المحاسبات، اجتمع الرئيس “قيس سعيد” مع رؤساء “المجلس الأعلى للقضاء” و”مجلس القضاء العدلي” و”مجلس القضاء المالي” والرئيس الأول “للمحكمة الإدارية” في 8 ديسمبر الجاري، لمناقشة التقرير الصادر عن محكمة المحاسبات بشأن نتائج التحقيقات في قضايا التمويل الأجنبي المتورط فيها أعضاء حركة النهضة.

3- تنفيذ الأحكام ضد المتورطين في تلقي تمويلات أجنبية: حيث تم التأكيد من قبل رئيس الدولة “سعيد” على تنفيذ الأحكام التي تضمنها التقرير الصادر عن “محكمة المحاسبات” فيما يتعلق بالحصول على تمويل أجنبي في انتخابات 2019، وهو ما يرجح إسقاط قوائم انتخابية لأحزاب سياسية ورد اسمها ضمن التقرير الصادر عن هذه المحكمة، وينص الفصل 136 من قانون الانتخابات التونسي على محاسبة المتورطين في الحصول على تمويل أجنبي بالسجن لمدة 5 سنوات، والحرمان من الترشح للانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، وإلزام القائمة الانتخابية المتورطة في الحصول على تمويلات أجنبية بدفع تعويضات مالية تقدر بحوالي من 10 – 50 ضعف ما تلقته من تمويلات أجنبية وفقدان أعضاء القائمة عضويتهم في البرلمان.

سيناريوهان محتملان

تطرح هذه التطورات السياسية الهامة سيناريوهان محتملان بشأن مستقبل حركة النهضة، ومن أبرزها ما يلي:

السيناريو الأول- حلّ حركة النهضة: يرجح هذا السيناريو أن تتجه السلطة التنفيذية إلى اتخاذ قرار يقضي بحل الحركة وذلك استناداً إلى التأكد من تورط الحركة في الحصول على تمويلات أجنبية، وبما أن السلطة التنفيذية في يد رئيس الدولة فقد يتم اتخاذ قرار مماثل، وبذلك تكون النهاية لحركة النهضة سياسياً، وسيستند الرئيس في ذلك إلى تصاعد حدة الغضب الشعبي تجاه ممارسات حركة النهضة وسياساتها التي أدت إلى تأزم الأوضاع السياسية وعدم الاستقرار الحالي في البلاد.

السيناريو الثاني- انقسام الحركة وتأسيس حزب جديد: ويرجح هذا السيناريو اتجاه الحركة نحو مزيد من التفكك والانهيار، ويستند في ذلك إلى تورط أعضاء وقيادات الحركة في الحصول على تمويلات أجنبية وما سيترتب على ذلك من تطبيق العقوبات القانونية عليهم بما في ذلك من إسقاط عضوية المتهمين من البرلمان وإسقاط قائمتهم الانتخابية وتطبيق عقوبات مالية عليهم، وهو ما سيعني تفكك الحركة بشكلها الحالي، وتشجيع المستقيلين على تأسيس حزب سياسي جديد في محاولة لتهدئة الرأي العام الداخلي المُثار ضد الحركة، ومن ذلك محاولة القيادي الإخواني السابق في الحركة “عماد الحمامي” تأسيس حزب تحت اسم “السعادة” بالاشتراك مع عدد من الأعضاء السابقين في الحركة.

ضعف هيكلي

خلاصة القول، لقد جاء حادث احتراق المقر الرئيسي لحركة النهضة في الوقت الذي تعاني فيه الحركة من ضعف هيكلي وانشقاقات وانقسامات داخلية متصاعدة تكاد تؤدي إلى انهيار الحركة بشكل كبير، ويأتي الكشف عن تورطها في تلقي تمويلات أجنبية ليزيد من حدة ضغوط الرأي العام التونسي ضدها، وترجح هذه المعطيات استمرار تفكك حركة النهضة وربما تتعرض لقرار بحلها خلال الفترة القادمة.