إشكاليات التعايش مع عدم الاستقرار الممتد في المنطقة العربية

جلسة استماع:

إشكاليات التعايش مع عدم الاستقرار الممتد في المنطقة العربية



نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة” بالقاهرة، بتاريخ 12 أكتوبر 2021، جلسة استماع حول “إشكاليات التعايش مع عدم الاستقرار الممتد في المنطقة العربية”، واستضاف المركز الأستاذ الدكتور “علي الدين هلال” أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة كمتحدث رئيسي في الجلسة، بجانب مشاركة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، ومنهم الدكتور “محمد عز العرب”، والدكتور “محمد عباس ناجي”، والأستاذ “أحمد عليبة”، والأستاذ “أحمد كامل البحيري”، والأستاذ “عمرو عبدالعاطي”، والأستاذ “محمد بسيوني”.

تشخيص اللحظة

استهلّ الدكتور “علي الدين هلال” الجلسةَ بالتأكيد على ضرورة التحديد التدقيق في التعاطي مع السياقات القائمة بالمنطقة، والتشخيص الدقيق للحظة الراهنة. ولذا فإن فكرة عدم الاستقرار يجب التعاطي معها بدرجة كبيرة من الحذر، لأن اللحظة الراهنة اختلفت جذرياً عما حدث في عام 2011 وحتى عام 2014 بأن هناك احتمالات لتفكك الدولة الوطنية على إثر تعرضها لهزة عنيفة، إذ أصبح ذلك غير قائم، حيث تم تثبيت أركان الدولة في حالات، وتكيفت مع الأوضاع في حالات أخرى، كما تفادت دول أخرى هذا المصير كلية.

واتفق “د. هلال” مع الرأي القائل بأن هناك حالة “عدم استقرار ممتد”، لكن الأمر يتوقف أيضاً على الإشارة الدقيقة إلى مظاهر عدم الاستقرار، بالنظر إلى أن هناك دولاً كانت على شفا الانهيار لكنه لم يحدث، على نحو ما كان متصوراً في الحالة اللبنانية، ففي الأخير تم تشكيل حكومة، وبالتالي يجب الوضع في الاعتبار أن هناك عوامل أخرى في الأزمة من الضروري وضعها في السياق وهي “عوامل الصمود والمقاومة”، أو بتعبير آخر عوامل المناعة في النظم الاجتماعية والسياسية العربية، والتي تنطوي على محددات تغير وضع عدم الاستقرار والحفاظ على الوضع القائم. وهو ما ينطبق كذلك على الحالة في سوريا. وفي بعض الحالات يعتقد أن المحدد الاقتصادي مثلاً هو مؤشر قياس عدم الاستقرار، كما في الحالة اللبنانية، لكن في حقيقة الأمر هناك ضيق اقتصادي لم يؤدِّ إلى الانهيار الكامل للدولة.

وفي سياق متصل، تطرق “د. هلال” إلى أهمية التعاطي مع فكرة الفاعلين من غير الدول، باعتبارهم مثّلوا جزءاً هاماً من مشهد عدم الاستقرار في المنطقة، فهؤلاء الفاعلون، وعلى وجه التحديد تيارات الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية مثل “داعش”، كانوا في مرحلة صعود تاريخي في السنوات الماضية، ولكنهم في اللحظة الراهنة في حالة انحسار وتراجع شديد.

مداخل رئيسية

استدعى “د. هلال” عدداً من المداخل الرئيسية لتحليل الأوضاع في المنطقة العربية، وتتمثل هذه المداخل فيما يلي:

1- مجتمع المخاطر risk society: وهو مفهوم يمكن استعارته للتعامل مع مشكلة عدم الاستقرار في المنطقة، ولكن يجب التدقيق أيضاً عند استخدام هذا المفهوم الذي ينسب إلى كل من “أنطوني جيدنز” و”أولريش بيك”، حيث لا يتحدث المفهوم عن الدولة ولكنه يتعامل مع المجتمع ومدى قدرة المجتمع على مواجهة المخاطر التي تطرأ عليه. ومن ثم يتطلب الأمر الحديث عن المؤسسات الاجتماعية (مثل الأسرة)، وتأهيل المجتمعات العربية بالقدرات اللازمة التي يمكن عبرها التعامل مع المخاطر، وتعزيز المناعة الاجتماعية.

2- مفاهيم الدولة الهشة والدولة الضعيفة والدولة الفاشلة: وهي نماذج قائمة إلا أن لكل حالة وضعها، وكل حالة تقتضي وضع الأسباب الخاصة بها، من أسباب اجتماعية أو اقتصادية وسياسية، وعلى حسب طبيعة التكوين الديني والإثني والجهوي، وأوزانها في التأثير على حالة الدولة، إضافة إلى أبعاد أخرى منها الأمني من حيث السيطرة على الحدود السياسية على سبيل المثال، وأحياناً جميع هذه الأسباب كما في حالة الدولة الفاشلة والنموذج الأبرز لها الصومال.

3- الصراعات الاجتماعية الممتدة: وهو المفهوم الذي يعود إلى “إدوارد عازار”، ويعد مهماً في تحليل الأوضاع بالمنطقة، نظراً إلى أن هناك بعض الصراعات التي تُعتبر صراعات اجتماعية وليست سياسية فقط، وهو الأمر الذي يفضي إلى تعقيد الصراعات وعدم تسويتها سريعاً.

4- الفاعلون من غير الدول: هناك حاجة لتوسيع هذا المفهوم في المنطقة، فالأمر لا يقتصر فقط على التنظيمات الإرهابية، ولكنه يشمل أيضاً فاعلين آخرين على غرار شبكات تهريب المخدرات، والاتجار بالبشر، وتجارة الأسلحة.

5- الاختراق الإقليمي والدولي: اعتبر “د. هلال” أن عامل التدخل الخارجي له تأثير لا يقل عن تلك المؤثرات الخاصة بالبيئة الداخلية. فقد اعتبر أن القوى الإقليمية غير العربية أصبحت في قلب النظام العربي بحكم التأثير والانخراط بأدوات مختلفة، ولا سيما القواعد العسكرية والوكلاء في الداخل.

ستة محددات

بحسب “د. هلال” فإن عدم الاستقرار في دول المنطقة يرتبط بعدد من المحددات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1- الانقسام الاجتماعي في بعض الدول العربية، بحيث تكون للانتماءات الأولية الـحضور الأبرز، ويتراجع الولاء للدولة بصورة تؤثر على التماسك الاجتماعي.

2- الضغوط الديموغرافية، وهي لا ترتبط فقط بعدد السكان، ولكن أيضاً بقدرة المؤسسات السياسية على التعامل مع السكان ومتطلباتهم، علاوة على ظهور أجيال أصغر سناً وأكثر اتصالاً بالتكنولوجيا الحديثة ولها تطلعات ومطالب أكبر.

3- ضعف الحوكمة وقواعد الحكم الرشيد، مما أدى إلى عدم استغلال الموارد بالصورة الأمثل.

4- عدم التوازن بين ضخامة التحديات ومحدودية الموارد المتاحة.

5- غياب تصور وخطة متكاملة للتنمية المستدامة والتغيير الاجتماعي.

6- عدم إدراج دور التكنولوجيات الجديدة ومعطيات الثورة الصناعية الرابعة.

مسالك الخروج

أوضح “د. هلال” أن جوهر مسالك الخروج من عدم الاستقرار هو إقامة الدولة الحديثة، وحماية كيانها، مع الدعوة إلى الإصلاح، وعليه تتضمن هذه المسالك ما يلي:

1- بناء توافق وطني ودَوْر القيادات وقدرتها على بناء الائتلافات والتحالفات، وعدم النظر إلى القضايا محل الخلاف بمعادلات صفرية، ومحاولة التوصل إلى مواقف مربحة للأطراف المختلفة.

2- الجمع بين دولة الرسالة ودولة الإدارة والإنجاز، فالدولة لم يكن لها أن تعتمد فقط على الأيديولوجيا والشعارات القومية، ولكن يجب أيضاً أن يكون لها طابع إنجازي واضح.

3- دور الأفراد من خلال المؤسسات، حيث ينبغي تجنب النظرة التي تضع الأفراد في مواجهة وتضاد حتمي مع المؤسسات، وبالتالي إمكانية التأسيس لنموذج يتضمن عمل الأفراد الأقوياء من خلال المؤسسات القوية.

4- تمثيل المكونات الاجتماعية في مؤسسات الدولة، والعمل على إقامة النظام السياسي الاحتوائي.

سيناريوهات محتملة

أشار “د. هلال” إلى أن استشراف حالة الاستقرار في المنطقة في المستقبل القريب، وعلى وجه التحديد في عام 2022، يتطلب النظر إلى عدد من العلاقات الحاكمة لمستقبل المنطقة وفقاً لثلاثة مستويات. فعلى المستوى الدولي، هناك مسارات حاكمة في إطار العلاقات بين المنظومة الإقليمية والمنظومة الدولية، منها -على سبيل المثال- أن انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في الولايات المتحدة العام المقبل هي عامل مهم بالنظر لما ستشكله كمؤشر على الانتخابات الرئاسية بعد ذلك بعامين. وكذلك فرنسا وألمانيا، هناك انتخابات في الأولى، وحالياً يجري تشكيل الائتلاف الفائز في مرحلة ما بعد “ميركل” في الثانية، وبالتالي هناك انشغال غربي. بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة مشغولة حالياً بالتهديد الصيني، وهو ما كانت له مؤشراته في تشكيل تحالف “أكوس”. كما أن الولايات المتحدة لم تعد مستعدة بأي شكل للتضحية بأبنائها في حروب المنطقة. لكن هذا لا يعني أنها تتخلى بصورة كلية عن المنطقة أو عن حلفائها فيها. واعتبر أنه لا يجد في السياسة مفهوماً للفراغ، فأي فراغ سيحدث سوف تملؤه مباشرة قوى بديلة.

أما على المستوى العربي، فالتعافي الاقتصادي والاجتماعي من فيروس كورونا ربما سيكون له اتجاه في العام المقبل، ربما سيتحسن الوضع بالنسبة لسوريا في ضوء عملية تقييم العلاقة معها من جانب بعض الأطراف العربية والدولية، بالإضافة إلى العراق الذي يجب تقييم وضعه في ضوء الانتخابات الحالية، لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى دور رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي” في إعادة العراق لعمقه العربي، والانفتاح على جواره العربي والتعاون والشراكة معه. علاوة على ذلك، يرجح أن تستمر العلاقات المستقرة بين دول مجلس التعاون الخليجي والأردن ومصر والمغرب، كما سيتواصل التقارب الثلاثي بين مصر والعراق والأردن. وبالرغم من ذلك، فإن هناك بعض القضايا التي قد يكون لها تأثير سلبي على الأوضاع والعلاقات العربية، وخصوصاً الأزمة المتصاعدة بين المغرب والجزائر.

 أما على مستوى القوى الإقليمية، فإيران تريد فرض تصورات وتسويات بمنظور إيراني، وتركيا تعمل على تنامي العسكرة. وفيما يتعلق بأدوار القوى في الأزمات الإقليمية فإن هناك مفاتيح تلوح في الأزمة اليمنية في إطار الجولات الاستكشافية الإيرانية-السعودية.