إشكاليات اقتصاديات الحدود في منطقة المغرب العربي

شبكات الظل:

إشكاليات اقتصاديات الحدود في منطقة المغرب العربي



تمثل شبكات الظل أو المبادلات التجارية الخفية عن رقابة الأجهزة الرسمية الوطنية أحد مصادر تهديد الأمن الوطني والاقتصاد القومي لدول الشرق الأوسط، ومنها منطقة المغرب العربي، حيث جعلت النزاعات داخل أو بين دول المغرب من التهريب مصدراً مربحاً للدخل بالنسبة للمليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية، بسبب رخاوة الحدود بين الدول وافتقار أجهزة الأمن في منطقة الساحل الإفريقي إلى الحاجات اللازمة لمكافحة الإرهاب. كما يعد ضعف كفاءة المؤسسات التمويلية وصعوبة ممارسة الأعمال وغياب فرص التنمية وخاصة في المناطق الطرفية والأقاليم المهمشة حافزاً قوياً لتبني العديد من المواطنين العمل في تجارة السلع غير الرسمية وانخراطهم في شبكات التهريب.

فقد اشتبك الجيش الليبي مع عصابات مسلحة لتهريب الوقود في عملية فجر 3 أغسطس 2022. وأدت العملية إلى اعتقال 8 مهربين، وضبط ثلاث ناقلات وقود تحتوي على 120 ألف لتر من الوقود (المدعوم). إذ انتشرت عمليات تهريب الوقود بالمنطقة الجنوبية، مستغلة اتساع رقعة المنطقة مع الضعف الأمني، مما أدى إلى أزمة وقود خانقة في جنوب ليبيا أدت إلى ارتفاع أسعاره إلى أكثر من عشرة أضعاف السعر الرسمي في ليبيا.

دوافع حاكمة

تتعدد العوامل المفسرة لانتشار اقتصاديات التهريب في منطقة المغرب العربي، على النحو التالي:

1- الصراع الليبي على السلطة: عانى الاقتصاد الليبي بشكل ملحوظ نتيجة للصراع المرير على السلطة بين أطراف مختلفة، في مرحلة ما بعد إسقاط نظام القذافي وحتى الآن، مما كان له تأثير سلبي على اقتصاد البلاد، حيث نُهبت ثروات البلاد عبر الاستيلاء على العوائد المالية من بيع الوقود، إذ يمثل قطاع النفط شريان الحياة للدولة الليبية. ووقع الضرر أيضاً على القطاع المصرفي حيث أدت مراوحة الصراعات التي شهدتها البلاد على مدى يتجاوز العقد من الزمن إلى تدمير البنية التحتية بالكامل وهروب الاستثمارات الأجنبية والمحلية إلى الخارج مع تزايد عمليات الفساد المالي وتهريب أموال احتياطي البنك المركزي الليبي بالعملة الصعبة إلى الخارج. فذلك الصراع الحاد انعكست نتائجه سلباً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بليبيا، مما عزز من اللجوء للتجارة عبر الحدود غير المسيطر عليها، والتي تدر أرباحاً هائلة.

2- هشاشة الاقتصاد التونسي: لم تشهد الأوضاع الاقتصادية في تونس حتى الآن انتعاشاً حقيقياً منذ انطلاق الثورة الشعبية عام 2011، حيث تأثرت العديد من القطاعات الحيوية، خاصة السياحة والتجارة والاستثمار. فالاقتصاد التونسي لا يزال يعاني من تباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب من ذوي المهارات العالية، والتي وصلت إلى 18.4% في عام 2021، فضلاً عن ارتفاع التضخم إلى 6.6% في عام 2021 وانخفاض القوة الشرائية بسبب أسعار الوقود والغذاء والمياه. أما البرنامج الاقتصادي الإصلاحي الطموح في إطار المخطط التنموي 2016-2020 فبقي مجرد وعود زائفة لم تتحقق على أرض الواقع، فحتى الآن لم يحقق إلا 4% من نسبة النمو الاقتصادي فقط، وهو ما ساعد على توفير بيئة محفزة لقاطني المناطق الطرفية التي تعاني من التهميش التنموي للاتجار عبر الحدود.

3- الحراك الشعبي الجزائري: منذ بدايات عام 2019، بدأ بركان حراك الشعب الجزائري ولم يهدأ ساعياً إلى تغيير السلطة وبناء دولة القانون والحق وتحسين المستوى المعيشي للأفراد، وتسبب هذا الحراك في خسائر لميزانية الدولة وفقدان الثقة في الاستثمارات بالجزائر، حيث أصبح المستثمرون خائفين من استثمار أموالهم في البلاد بسبب انعدام الأمن وسهولة التأثر بالإشاعات، وفقاً لاتجاه رئيسي في الأدبيات. كما أن الموارد المعدنية ليست بعيدة عن هذه الاعتصامات، حيث كان هناك انقطاع متكرر للإنتاج في شركة سوناطراك لإنتاج الغاز الطبيعي، وشلل التجارة والمعاملات المالية الدولية، مما أثر سلباً على الوضع الاقتصادي المستقبلي، وهو ما يدعم توجه البعض نحو التهريب لتحقيق مكاسب طائلة.

4- معضلة التنمية غير المتوازنة في المغرب: تصاعدت احتجاجات الريف المغربي بين عامي 2016 و2019 تذمراً وسخطاً على الأوضاع الاجتماعية نتيجة لتدهور المقدرة الشرائية، وارتفاع معدلات البطالة، وعدم التوزيع العادل للثروات الوطنية بتلك المنطقة التي تعتبر مهمشة، الأمر الذي مثل عاملاً محفزاً للعاملين في تجارة التهريب، وخاصة على الحدود بين الجزائر والمغرب.

5- الحدود المغلقة بين الجزائر والمغرب: بدأت النزاعات على الأراضي والموارد بين دولتي المغرب والجزائر منذ عقود، فضلاً عن نظرة كل نظام سياسي بالدولتين إلى الطرف الآخر على أنه يمثل تهديداً له، مما أدى إلى إغلاق الحدود بينهما. وقد أدت عمليات إغلاق الحدود المتكررة إلى فصل العائلات (عادة ما يتزاوج المغاربة والجزائريون على طول الحدود ويتاجرون مع بعضهم)، لكنها لم تعطل الأعمال التجارية عبر الحدود. وقد زادت القواعد واللوائح التجارية وخاصة قيود الاستيراد في الجزائر من جاذبية الواردات السرية من المنتجات الزراعية والملابس والأحذية والنبيذ من المغرب. كما تم دعم العديد من المنتجات الغذائية والنفطية في الجزائر، مما أدى إلى عكس تدفق السلع بين البلدين، حيث أصبح تهريب المنتجات المدعومة وخاصة الوقود إلى المغرب عملاً مربحاً.

6- أزمة الجفاف في موريتانيا: عانت موريتانيا في السنوات الأخيرة من جفاف حاد أدى إلى تدهور كامل وشامل لقطاعها الزراعي، وانقراض المواشي وانقسام التربة. وتسبب هذا الجفاف الشديد في خسائر مالية كبيرة في ميزانية الدولة الموريتانية التي لا يزال القطاع الزراعي العمود الفقري لاقتصادها. كان ذلك بسبب انخفاض منسوب المياه الجوفية وهطول الأمطار نتيجة التغيرات المناخية والاحتباس الحراري، والتي بدورها تسببت في خسائر كبيرة للاقتصاد الموريتاني الذي يعتمد على القطاع الزراعي كمصدر رئيسي للناتج المحلي، وهو ما عزز من التوجه نحو التهريب عبر الحدود الرخوة.

أنماط متعددة

ثمة عدة أنماط لاقتصاديات التهريب في منطقة المغرب العربي، كالتالي:

1- الاتجار بالبشر: يظهر هذا النمط بوضوح في الحالة الليبية، إذأكد رئيس المجلس الوطني للحريات العامة وحقوق الإنسان في ليبيا على تنامي ظاهرة الاتجار بالبشر في ليبيا، من قبل العديد من المافيات الدولية التي استغلت الوضع السياسي الهش، وسعي المجلس إلى القضاء على هذه الظاهرة من خلال بناء شراكات دولية وبالأخص مع منظمة “لا سلام دون عدالة”، بالإضافة إلى إعداد مشروع قانون يجرم هذه التجارة. فقد انعقدت ورشة عمل يوم 22 مارس 2022 بالعاصمة تونس نظمها المجلس الوطني الليبي للحريات العامة وحقوق الإنسان ومنظمة “لا سلام دون عدالة” بالشراكة مع مجلس أوروبا لإعداد قائمة المؤشرات المتعلقة بالرصد والتعرف على ضحايا الاتجار بالبشر بين ليبيا وتونس والجزائر، والتوجه نحو مكافحة تجارة الاتجار بالبشر. كما تعد المغرب محطة انتقالية فقط قبل العبور إلى إسبانيا في سياق الاتجار بالبشر، من قبل عصابات محددة، حيث يمارسون في حق الكثير من المهاجرين الأفارقة، وبالخصوص النساء والأطفال، جرائم الابتزاز والاغتصاب، وحتى القتل والاتجار بالأعضاء البشرية.

2- تهريب المحروقات: تنتعش في ليبيا تجارة تهريب المحروقات مع تونس والجزائر، حيث أصبحت مصدر رزق لكثير من المواطنين خاصة على الحدود. فقد تحولت المنطقة الحدودية بين تونس وليبيا إلى واحدة من أبرز المناطق التي تشهد نشاطاً متزايداً لتهريب النفط في شمال أفريقيا خلال السنوات الأخيرة. وتقدر ﻛﻤﻴﺎﺕ ﺍﻟﻮﻗﻮﺩ ﺍﻟﻤﻬﺮﺏ ﻣﻦ ﻟﻴﺒﻴﺎ ﺇﻟﻰ ﺗﻮﻧﺲ ﺑـ 500 ﻣﻠﻴﻮﻥ ﻟﺘﺮ ﺳﻨﻮﻳًّﺎ، مما ﻳﻌﺎﺩﻝ 17٪ ﻣﻦ ﻣﻴﺰﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺍﻟﻠﻴﺒﻴﺔ. ولم يقتصر تهريب النفط من ليبيا على دول الجوار مثل تونس والجزائر، ولكن انتشرت ظاهرة تهريب النفط الليبي نحو دول الشرق عبر البحر المتوسط. وكانت هذه العمليات تقودها عصابات دولية بالتعاون مع مجموعات مسلحة ومليشيات ليبية.

3- تجارة المخدرات: لا تزال تجارة تهريب المخدرات من المغرب إلى دول المغرب العربي بل وأوروبا شائعة، على الرغم من العمليات التي يتم ضبطها من قبل الأجهزة الأمنية وعناصر القوات المسلحة الملكية. فهذه التجارة يعمل بها مواطنون في أقاليم طرفية، وناشطون تابعون لجبهة البوليساريو المطالبة بانفصال الصحراء، علاوة على تجار في دول أوروبية مثل أسبانيا، وخاصة عبر الموانئ البحرية. ومن ثم فإن هناك سلسلة من عمليات التهريب المتواصلة التي لا تنتهي، وخاصة لمخدر “الشيرا” و”الكوكايين”، نظراً للمبالغ المالية الكبيرة المحصلة من عائدات التهريب.

4- تهريب السلع: تعاني تونس من ظاهرة تهريب السلع على الحدود مع الجزائر وليبيا. ويزدهر تهريب السجائر والنبيذ الفاخر والهواتف والأجهزة الإلكترونية، ويعمل بها الشباب في المدن الحدودية، الذين تتراوح أعمارهم بين 15-29، وفقاً للعديد من الدراسات الميدانية الصادرة عن مجموعة الأزمات الدولية، بل إن إحدى الدراسات الصادرة عن البنك الدولي تشير إلى أن حجم التهريب يمثل أكثر من 50% من تعاملات تونس التجارية مع ليبيا، وأن مستوى التجارة غير الرسمية مع الجزائر لا يبتعد عن هذه النسبة. 

سلاح مزدوج

خلاصة القول، لقد تفشت ظاهرة التهريب المتعدد الأبعاد بين دول المغرب العربي، لدرجة أنها صارت تجارة موازية تفوق في كثير من الأحيان ما تحققه التجارة الرسمية، بسبب صعوبة السيطرة على الحدود بحكم امتدادها وصعوبة مراقبتها، بحيث تعد هذه التجارة سلاحاً ذا حدين، إذ تمثل عبئاً وتكاليف اقتصادية باهظة على حكومات الدول، نتيجة التهرب من الضرائب. وعلى الصعيد الآخر، أدى التهريب إلى توفير نوع من التوظيف الذي ساهم في خفض معدل بطالة الشباب وتخفيف حدة الفقر. وعلى مدى عقود ساعد التهريب على إنعاش البلدان الجزائرية الحدودية نظراً لقلة الخيارات الاقتصادية البديلة بسبب الميزانيات غير الكافية، فضلاً عن مساعدة المواطنين على مواكبة غلاء الأسعار، والتعايش مع الظروف الاقتصادية الصعبة للبلدان.